بموت جار الله الحميد مات جزءٌ من كلي، وتوقف نبضٌ من نبضي، وانكسر عمود الكلمات الهش، وصمتت المدن في أذني.
جارالله عرفته قارئًا صغيرًا في أحزان عشبة برية وتنفست حزنه الجميل كلما أطلقت لساقيّ الريح ماشيًا في تلاع أجا وشُعبان سلمى بالمخاليف والقيلات ورحلاتي الانفرادية في نفود حائل الكبرى وفياض الحجرة متأملاً تفاصيل حزن جارالله في ثنايا بنفسج الخزامى البرية وزهيرات الأقحوان والبختري والعبيثران.
أتأملها وأرى قلب جارالله وأُقرؤه السلام كلما حملت هبوب شمالية حزنَ الشيح وذبوله وضجر الغضا وتأوه القتاد وتململ العوسج.
قابلت جارالله مرةً واحدة في حياتي، دقائق معدودة وكأنها امتدت رفقة عمّرت عمرًا طويلاً، قابلته وقوفًا عند باب بيته قلت له «إن الشيخ عبدالله بن إدريس سوف يأتي غدًا إلى حائل ويقدم أمسية شعرية لأهل حائل في المركز الثقافي»، فقاطعني بصوت أجش وسارح: «طيب أنت وشتبي مني؟». قلت له «أبيك تقدم الأمسية لأنك من مثقفي حائل». قال: «لا.. لا ما أنا مقدمن شي. أنت من أنت ولده؟».
قلت له: «قلت لك أنا عبدالله الرخيص!». قال «الرخيص اللي بمغيضه؟» قلت نعم. قال «لا ما أنا مقدم ما أقوى... أدخل تقهو». قلتُ «إذا توافق على تقديم أمسية ابن دريس أدخل أتقهوى».
فالتف ببطء وتراجع متثاقلاً إلى الوراء: «بكيفك يا حيي ماني غاصبك.. بس أنا ما أنا مقدمن شيء». وافترقنا إلى أن وصلني نعيه اليوم فحزنت حزنه وتأثرت وقلت في نفسي أذهب إلى حائل غداً أصلي عليه وأعزي ذويه بالمقبرة وأذهب إلى المدينة من هناك، لكن الطبيب رفض. قال لي بالكاد نجد موعدًا داخليًا للأشعة والمسح التشخيصي إذا طلعت ما فيه موعد إلا بعد شهر وتضطر تقعد بالمستشفى شهرًا إضافيًا فلم أذهب وانكفأت.
قلة من مثقفي حائل أثْروا وأثّروا في وجداني وحملوني بين صفحات إبداعهم وعطائهم، فهد العريفي رحمه الله كان طودًا شامخًا استمددت من صلابته دأبي وقيامي بعد انثناءاتي، وفهد السلمان أبيض القلب جميل الروح عذب المحيا، كنت أقف عند باب البقالة أقرأ زاويته باتجاه الأبيض وأعيد الجريدة لأن ما يكتبه عن ديرتي حائل كان يغنيني عن قراءة الجريدة، وصالح العديلي -رحمه الله- مضى برائحة الحيور الحدرية وتفاصيل أيامها الأخيرة، وهذا جارالله يمضي هو الآخر. رأيت بعض إرث جارالله فيمن عاصروه أو تلوه من الجيل الخلّاق من مثقفي حائل في جبير المليحان وعبدالعزيز الحمود الخزام وفارس الهمزاني وكثيرين رائعين أجد فيهم ريح جارالله وإبداعه.
قبل نحو أربع سنوات زار سمو نائب أمير منطقة حائل جارالله الحميد في منزله تقديرًا وتكريمًا واحتفاءً فكاد يلمس رأسي عنان السماء، هذا الأمير الشاب الرائع الممتلئ أريحية وعطاءً والمتقد حيويةً وذكاءً أبهجني بهذه الزيارة، كيف لا وهو حفيد الأمير مقرن الذي يسكن قلوب الحائليين.
رحم الله جارالله الحميد رحمة واسعة وجعل قبره روضة من رياض الجنة وأبدله دارًا خيرًا من داره وفرحًا خيرًا من حزنه وحدائق وأنهارًا خيرًا من أعشابه البرية الذابلة.
** **
- عبدالله بن إبراهيم الرخيص