هيئة التحرير بالثقافية
ودع المجتمع الثقافي والأدبي القاص جارالله بن يوسف الحميد، الذي وافته المنية يوم الخميس الماضي وووري جثمانه الثرى بمقبرة صديان بحائل.
والحميد رحمه الله أحد كتاب المجلة الثقافية، وولد بحائل عام 1954م / 1374 هـ، هو كاتبٌ قاصٌ وأديبٌ وشاعر، شرع بمسيرته القصصية عام 1977م، وقد أنتج خلال مسيرته عددًا من المجموعات القصصية خلال مسيرته الأدبية، فأصدر «أحزان عشبة برية»، 1980م، عن دار الوطن للنشر، ومجموعة: «وجوه كثيرة أولها مريم»، 1984م، عن نادي القصة السعودي، ومجموعة: «رائحة المدن»، 1998م، عن نادي جدة الأدبي الثقافي، ثم «ظلال رجال هاربين»، 2000م، عن نادي حائل الأدبي، فيما صدرت «الأعمال الكاملة» للحميد في 2010م، عن نادي حائل الأدبي، ومؤسسة الانتشار العربي ببيروت.
وقد حفلت مسيرته ببعض النشاطات الثقافية فقد كان عضوًا في نادي حائل الأدبي وعضوًا في مجلس إدارة نادي المنطقة الشرقية الأدبي.
وللحميد رحمه الله رؤية خاصة في السرد، حيث ينظر إليها بنظرة تختلف عن نظرة بعض النقاد، وتنطلق هذه النظرة من عمق فكري يعكس تجربته الحياتية الغائرة؛ حيث يقول: قدري أن أكون مختلفًا، إذ كان قدري أن أكون كذلك، فلقد بان اختلافي عن أقراني منذ المدرسة، في المرحلة الابتدائية، وفي المرحلة المتوسطة بدأ هذا الاختلاف عن أقراني يظهر بشكل جلي، إذ لم أكن جار الله ذاك الطفل ذا الأربعة عشر عامًا، الذي يلعب مع أقرانه في حارة قديمة، إذ كنت أميل إلى القراءة، إذ كنت أقرأ القصص، وأحلم بأبطالها في منامي! «مردفًا، عن مجموعته «رائحة المدن»: كانت نتيجة تجربة، عشتها، أكدت لي أن الفن قرين الفقر والغربة، إلى جانب اليتم الاجتماعي، فقد بعت منزلي في أحد الأحياء بسبب الحارة التي كانت تمثل لي مصدر إزعاج، وبيئة مشكلات مجتمعية آنذاك، ما جعلني أتحول من منزلي بعد بيعه، إلى شقة مستأجرة، حتى اكتمال بناء مسكن جديد، عندها حصلت على آلة كاتبة، من صهري، إذ كنت أكتب عليها نصوص مجموعة «رائحة المدن»، حيث اعتزلت قرابة الشهرين المجتمع، خلال ذلك خرجت بهذه المجموعة التي كان مدادها نتيجة تجارب حياتية عشتها، التي أرى أنها أفضل مجموعاتي القصصية.
وعن موقفه من كتابة (الرواية)، رغم وجود مسودة لرواية لديه منذ سنوات، ويصف الحميد رحمه الله موقفه من هذا الفن الأدبي قائلاً: «رغم ذلك لا أميل إلى كتابة الرواية، لأني أرى أنها عمل مجهد ومتعب، وفي كتابتي للقصة القصيرة ما يكفي من التعب ومعاناة الكتابة الإبداعية، فمتى ما بدأت بالكتابة وجدت أن نبضي يتسارع مرتفعًا، وكأني بجسدي يتألم، لأنني أعيش طقوسي الخاصة في الكتابة، التي ليست مجرد قضاء وقت لفراغ في حياتي، بل إنها الهم والاهتمام والعمل، إذ أرى في نفسي أن عملي كاتب، ما يجعلني أعيش مع نصوصي، وأعطيها كل ما أملك من لغة، وخيال، وعاطفة!».
ولجارالله الحميد رحمه الله رؤية فلسفية خاصة تجاه الحياة وتسارع الأزمان سطرها في مقاله بعنوان: «الزمان إذْ يلهـو بنا»، نشر بالجزيرة بتاريخ 16-6-2015م، يقول فيه:
«كل الأيام تبدو: بلا معنى! وبلا جديد. سوى دقات ساعات الحيطان الصماء التي تحصي الزمن الضائع من أنفاس المواطنين الذين يشتكون الفراغ والهجران والصبر الطويل سدى. وفي مشهد جانبي يظهر رؤساء الدول الكبرى الآتين لتسويق الأسلحة والمزيد من آلة الدمار والموت. وهم متأنقون ويحملون مناديلهم الكبيرة المعدّة لامتصاص كميات أكبر من الفيروسات والأوبئة. ووحده: الشعر يقف متكئا على حديد الطرقات يبكي. ويشحذ العابرين أن يلتفتوا إليه ليؤنسوا وحشته الفادحة والكبرى. والمقاهي بلا زبائن ولا أجهزة برونوغراف لتتيح لصوت الفراغ أن يستولي على ذاكرات الناس المنعزلين الشاعرين بقسوة الصمت والتكرار واللا جدوى!.
هكذا يمضي زمننا. مثقلا بالحيرة ومدججا بالأسئلة. ومرتهنا للصمت.
وبدون أن نشعر - كثيرا - سيظل زمننا هكذا. لا نرى إلا غبار أقدامه ولا نسمع سوى حفيف ركضه. إنه، حتى في الشعر، مرآتنا الأخيرة وماؤنا الجميل لم يعد ثمة متسع للغة الحلم، وما عاد الغرباء يجدون غرفة شاغرة في فنادق المدن البعيدة والقريبة من الخلجان والقلوب. ولم تعد ثمة كؤوس تضج بغبار الرماد المثلج.
انظروا معي. ولتحدقوا فأنتم في مهمة صيد بورجوازية. انظروا للوحة كلها ولا تقسموها إلى مشاهد. انظروا إليها بعيون بانورامية. فلقد تعبنا من التقسيم. لم يعد ثمة ما نقوم بتقسيمه بعد أن تمّ تقسيم أوطاننا وتمّ توزيعها مثل قطع الكعك على الجيران القريبين والبعيدين. وتم تخصيص الجزء الأكبر منها للجيران ذوي النفوذ الأكثر. والقوة الأكثر. وتمّ توزيع عدد قليل من الحصص لقليلي الحيلة والحظ.
وصرنا نرى جيداً مشهد المغادرين أوطانهم إلى الأماكن الكثيرة والبعيدة دون مخططات للعودة حيث: لا عودة!. إلا بشرط تعجيزي وهو عودة الأوطان إلى أهلها والشموس إلى مداراتها. والنجوم لمنازلها. حاملين حقائبهم - أوطانهم الصغرى - على أكتافهم وظهورهم حتى احدودبوا. وصرنا نغني لهم أغاني العودة المستحيلة إلى البحار المستحيلة. صرنا كطيور تحاول أن تسكن إلى بعضها بعد طول رحيل وتطواف. وصارت عيوننا أكثر اتساعا من ذي قبل. ومساحات البياض فيها أكبر من ذي قبل. لكثرة ما نحدق في الفراغ واللامدى!. وصار منظرنا فكاهيا كممثلين تافهين خارجين من المسرح بعد أداء مسرحية سيئة بكل تفاصيلها ومفاصلها. والزمن كان الغائب الأكبر فيها ومنها. كانت الإشارة إليه وحدها: ممنوعة!. فنحن في المسرحية نستخدم كلمة الزمن على أنه زمن افتراضي يُفضّل المرور عليه مرور الكرام. أو مرور اللئام أيهما أسرع وأيسر.
لم تعد مجدية كل معلقات الرثاء ولا السيمفونيات العاطفية ولا المسرحيات الهزلية ولا أغاني الربيع ولا أصوات العصافير والبلابل. ولا حفيف الشجر بعد هواء ٍ رخيّ. ولا مشهد الماء وهو ينساب بين أقدام الصخور الصماء المخضوضرة. لم يعد كل شيء مبهجا بعد أن أصيب كل شيء بالصمم. وبعد أن عصفت الريح ببقية الأشجار. وصارت جذوع الأشجار عجائز واكتهلت لشدة المهمة. واحترقت الأغصان مثل سجائر في بدايات اشتعالها. لا تبحث عن شيء مثل بحثها عن مطفئة أو منفظة.
كل الأرقام صارت تشبه الصفر. ولم تعد تستجيب لعمليات جدول الضرب ولا القسمة ولا باقي عمليات الحساب ولا الجبر. وصار المطر ليس أكثر من مستنقعات صغيرة تصلح للضفادع وبقية الحيوانات البرمائية. لشدة ما هي قميئة في آنيتها. ولا ينافسها في قبحها القميء سوى قبح قاطنيها المؤقتين.
كان السؤال ولا يزال وربما سيظل يطعن صدر الزمن الرديء. مثل فارس مبتور الأطراف. ويلبس قناعا فضيا يخفي الجذام في وجهه. كان الزمان سؤالا طريا ينطوي على أمنيات ويحتوي على ضحكات مراهقات خليات البال. وبه موسيقى. وحواليه ضاحكون وعازفو آلات موسيقية وترية مصنوعة بحرفنة ومكر ودأب. وتسمع لليله غناء ً شجريا. وأقماره البهيجة تمتلك المفاتيح السرية للسعادة.
مضى الزمن سريعاً.. سريعا، أسرع مما كنا نظن!
مضى ودار على نفسه فاستدار. ولم يبقَ سوى خيوط ٍ صغيرة من الليل الذي اتجه إلى مرافئه الأخيرة كي يعود لمنازله البعيدة مانحا الزمن برهة يستضيف فيها نهارا آخر، ونحن نتعلق بأهداب كلّ ٍ منهما لوقت صغير ونعود أدراجنا نلهو بأنفسنا بعيدا عنهما!
هذا ليلنا، وهذا نهارنا!
تلك أزماننا!».
هذا وقد ترك رحيل الحميد جرحًا غائرًا في جسد الثقافة، فسالت أقلام الأدباء برثاء أحد أساطين كتابة القصة، هذا وتأمل «الثقافية» من الجهات المعنية بتكريم هذا الرمز وبتتبع نتاجه المخطوط وطباعته.