د. خالد عبدالله الخميس
تميل شعوبنا العربية إلى تصديق أخبار الجن وقصص التلبس بالجن دون إمعان في التثبت من صحة الحادثة، كوننا شغوفين بتصديق أي خبر يحمل الغرابة والخوارق، بل إن شغفنا بالخوارق يدفعنا لنطرب لها ونطرب الآخرين حينما نروج لها دون تثبت، وربما شككنا في إيمان من يناقش في صحة تلك القصص.
الأمثلة في ذلك كثيرة لا تحصى، فمن تلك الحوادث الشهيرة حادثة ترددت في الرياض قبل عقدين من الزمان عن تلبس فتاة بالجن، وكان سر إثارتها أن الجني اللابس للفتاة يتكلم بلغة آسيوية، ومما ضاعف في انتشار تلك الواقعة هو حضور أحد المشايخ المشهورين للحادثة ومشاركته في رقية المصابة، وتعهد الجني اللابس لها بأن لا يعود للدخول فيها مرة أخرى، ولتعطى القصة كامل حبكتها استدعي مترجم ليترجم كلام الشيخ لإحدى اللغات الآسيوية.
وكانت تلك الحادثة بحبكتها الدراماتيكية تلزم من يسمع القصة بأن تلبس الجن بالأنس حقيقة لا جدال فيها، وبعد أن روجعت تلك الحادثة تبين لاحقاً الجزء المبتور من القصة، وهو أن تلك القناة مصابة بفصام وأنها تعلمت اللغة الفلبينية من خادمتها وأنها بعد شفائها أصبحت تتهكم على كل من صدقها وروج لتوهمها. وهذا الجزء الأخير من القصة لم يُشَع بين الناس بنفس قدر شيوع قصة التلبس.
إن السبب الذي حدا بتلك الفتاة إلى الإصرار على كذبتها رغم مضي زمن على شفائها يرجع إلى المقولة التالية: «إنهم أرادوا ذلك».
عبارة «إنهم أرادوا ذلك» هي أكبر سبب منطقي يدفع كل من يختلق قصة ما من باب المزاح أو الوهم أن يصر على ثبوت وصحة قصته، حالما يجد الآخرين يدفعونه دفعاً نحو الإصرار على كذبته.
نفس سيناريو حادثة الجني الآسيوي والترويج لها وتبرير «إنهم أرادوا ذلك» وقعت قي الغرب وتحديداً في بريطانيا وبشكل مدعوم بالصور الموثقة للحادثة.. ففي عام 1920 تقريباً قامت فتاتان بعمل عرائس من قصاصات ورقية، وصورتا تلك العرائس بصورة فوتوغرافية، ولما اطلعت أم إحداهن على الصور ادعت هاتان الفتاتان أن تلك العرائس هي لفتيات من الجن «جنيات».
أخذت الأم هذه المزحة على محمل الجد وروجت لها، ووضِعت الفتاتان في موقف المصدق والمروج للقصة، وسادت قصة الجنيات الموثقة بالصور كل الأوساط الإعلامية في بريطانيا وأوربا، بل والأوساط العلمية حينما روج لها الروائي المشهور آرثر كونان دويل، ونسجت في ذلك روايات للخوارق السحرية وحكايات عن عالم الجن في Sherlock Holmes، بل وفسرت بعض أعمال الماجك magic على أنها خوارق جن وسحر وليست خدعاً وحيلاً.
وبعد مضي ستين سنة من الحادثة، اعترفت الفتاتان (العجوزان) وهما إلسي رايت وبنت عمها فرانسيس غريفيس بأنهما اختلقتا القصة وأن العرائس هي في الأصل أوراق مقصوصة على هيئة عرائس.
أهم ما في هذه القصة هو أنه عندما طُلب منهما المبرر الذي دفعهما لمواصلة الكذب قالتا: «نحن لم نرد ذلك، بل «إنهم أرادوا ذلك» بمعنى أن الرأي العام وقناعة الناس تنحو منحى توجيه فكرنا لنقتنع بكذبتنا.
وهكذا فإنه في علم النفس الجنائي يجد المرء مندفعاً ليدلوا بشهادته لواقعة ما على نحو يجاري فيه الرأي العام دون أن يتقصد الكذب، وهذا النوع من الشهادة يدخل فيما يسمى التفكير الموجه، حيث يلزم فكر الفرد للتفكير على نحو يخضع فيه دون أن يشهر إلى الفكر السائد، وهي ما نقصده بحجة «إنهم أرادوا ذلك « وهي نفس حجة الممثل الذي يقوم بدور غريب عندما يقول «المخرج عاوز كدا».
والأخطر من ذلك كله، أن إشباع الأبناء بقصص الجن المخيفة من قبل مجتمعهم وأسرهم، يدفع من تضطرب نفسيته منهم لأن يكون عرضة للإصابة بالهلاوس والفصام، فالجني الذي كرر زراعته في مخيلته يضاف إلى رصيد سيناريو فكره وتخيلاته وهلاوسه على نحو يتقمص فيه هو شخصية الجني اللابس له.
إننا بترديد قصص الجن نعزز ممن لديه قابلية للجنون أن يُجن (يصاب بالفصام)، ونعزز ممن لديه مخاوف أن تتضاعف مخاوفه، وقبل هذا وذاك، نعزز طلابنا على نحو يدفعهم لتفسير الظواهر الطبيعية الغريبة بأن يكون بطلها هو جني، فيا من أنت مشبع بقصص الجن والسحر، رفقاً بأطفالك ورفقاً بعقول الطلاب والطالبات.