حكم تلميع صورة الشخص تحت برامج تخفي العيوب وتظهر المحاسن، وتعطي لمعان للوجه على غير حقيقته، ومن ثم الاستعراض بها أمام من يشاهد السنابات ونحوها:
صورة المسألة: نجد من بعض الذين يعرضون أنفسهم أمام شاشات الجوالات أو برامج التواصل الاجتماعي ونحوها، يتكسرون في هيئاتهم، ويتشدقون في كلامهم، ويلمعون أنفسهم في الشكل والتصرف، ليظهر أمام الناس عبر الشاشات على غير حقيقته الأصلي خلقاً وخُلقاً، فما حكم ذلك.
1 - قال صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعطك كلابس ثوبي زور).
2 - روى الترمذي من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه، مرفوعاً: (إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا، وإنَّ مِن أبغضِكُم إليَّ وأبعدِكُم منِّي يومَ القيامةِ الثَّرثارونَ والمتشدِّقونَ والمتفَيهِقونَ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، قد علِمنا الثَّرثارينَ والمتشدِّقينَ فما المتفَيهقونَ؟ قالَ: المتَكَبِّرونَ).
وتشدق: تشدّقَ: لوى شِدْقه بكلام يتفصَّحُ.
3 - قاعدة: كل فعل يحتمل أكثر من معنى فالمرجع فيه إلى نية الفاعل، فإن لم تعلم فحسب القرائن، فإن لم تعرف فبحسب العرف.
وبناء على ذلك: فالذي يقصد بذلك الفعل هو إغراء الفتيات وفتنتهن ونيل إعجابهن والتعلق به منهن، كان فعله محرماً لسوء قصده، وقد قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات).
4 - القاعدة: الفعل المباح إذا ترتب عليه فتنة كان حراماً- كما سبق في القواعد - لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فكل ما ضرر أكبر من نفعه حرم.
وبناء على ذلك: فإن هذا التميلح الذي يعلم بسببه يقيناً أو غلبة للظن حصول الافتتان به يكون حراما.
مع أن الأصل: جواز اللبس الحسن والثوب الحسن، والتجمل غير المذموم (إن الله جميل يحب الجمال).
ولكن إذا ترتب على زيادة اهتمام الإنسان بنفسه فتنة له أو لغيره به منع منه درءاً للمفسدة الكبرى، مع احتمال المفسدة الصغرى عند التعارض وكذا ما يترتب على تنميق لسانه وإظهار محاسن يومياته من تعلق وفتنة، فكيف إذا كان هذا هو قصده وهدفه، زاد وزراً وذنباً.
5 - وَنَفَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ مِنْ الْمَدِينَةِ حِينَ سَمِعَ قَائِلَةً تَقُولُ:
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا
أَوْ هَلْ سَبِيلٌ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى:
"نَفَى عُمَر بْن الْخَطَّابِ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَمِنْ وَطَنِهِ إلَى الْبَصْرَةِ، لَمَّا سَمِعَ تَشْبِيبَ النِّسَاءِ بِهِ، وَكَانَ أَوَّلًا قَدْ أَمَرَ بِأَخْذِ شَعْرِهِ؛ لِيُزِيلَ جَمَالَهُ الَّذِي كَانَ يَفْتِنُ بِهِ النِّسَاءَ، فَلَمَّا رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْنَتَيْنِ، غَمَّهُ ذَلِكَ، فَنَفَاهُ إلَى الْبَصْرَةِ؛ فَهَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ ذَنْبٌ وَلَا فَاحِشَةٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا؛ لَكِنْ كَانَ فِي النِّسَاءِ مَنْ يَفْتَتِنُ بِهِ، فَأَمَرَ بِإِزَالَةِ جَمَالِهِ الْفَاتِنِ؛ فَإِنَّ انْتِقَالَهُ عَنْ وَطَنِهِ مِمَّا يُضْعِفُ هِمَّتَهُ وَبَدَنهِ، وَيُعْلَمُ أَنَّهُ مُعَاقَبٌ، وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الَّذِينَ يُخَافُ عَلَيْهِمْ الْفَاحِشَةُ وَالْعِشْقُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُعَاقَبَةِ" انتهى.
6 - قاعدة: المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة في الجملة.
ودرء الفتنة التي يغلب على الطن حصولها بذلك الشيء، أولى ومقدمة من مصلحة الإنسان الخاصة التي يترتب عليها انتفاعه من هذه الشهرة بما يدر عليه أموال التسويق والإعلان ونحوهما، والله تعالى أعلم.
** **
د. محمد بن سعد الهليل العصيمي - كلية الشريعة بجامعة أم القرى.