الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
تظهر بين الفينة والأخرى فتاوى شاذة غريبة، لأنصاف المتعلمين، والمتجرئين على الفتوى، وتسهم الفضائيات ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بنشر رؤاهم دون تمحيص وروية عن تأهيلهم العلمي والنفسي عند فتح المجال لهم للتحدث عن أمور جسام تتعلق بالإسلام وأحكامه.
ويؤكد العلماء في الدول الإسلامية على حرمة الفتوى بغير علم، وخطورة الانفلات في الفتاوى، مع أهمية الرجوع إلى دور الإفتاء والعلماء الربانيين، وضرورة تحري وسائل الإعلام عن هؤلاء الدخيلين على الساحة الإسلامية. "الجزيرة "رصدت رؤى عدد من أصحاب السماحة المفتين في عدد من الدول حول انفلات الفتوى، وانتشار بعض الفتاوى العشوائية، والمثيرة للفتن في الفضائيات ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
اضطراب الفتوى
يقول مفتي المملكة الأردنية الهاشمية الدكتور عبدالكريم خصاونة إن الفتوى في المسائل الدينية تعد من أهم وأخطر الأعمال، لأن لها أثرًا عظيمًا في حياة الأمة الإسلامية، لكونها إخبارًا عن أحكام الشرع التي أمر الله تعالى الناس بالاحتكام إليها، وجعلها نظامًا لتعاملهم في الدنيا لتكون لهم عاقبةُ الحسنى في الدارين، وما نراه في أيامنا هذه من اضطراب في الفتاوى، ليس مرجعه إلى الشريعة نفسها، لأنها مصونة عن الخلل والاضطراب، ومشتملة على الحكمة والمصلحة وتوحيد الكلمة وجمع الصفّ. وأما الاضطراب الناشئ عن الاختلاف في الفتاوى فهو على نوعين، الأول: إما أن يكون ناشئًا عن الاختلاف في فهم الدليل، أو تقديم بعض الأدلة على بعض، كالاختلاف الحاصل بين المذاهب الفقهية، وهذا في حقيقته ليس اضطرابًا، بل ثروة فقهية وعلمية ورحمة للأمة، كما نص عليه العلماء، وهذا الاختلاف لم يكن سببًا في الشقاق والنزاع، وإنما كان مظهرًا من مظاهر التنوع المؤدي إلى جمع الشمل ووحدة الصف.
والنوع الثاني من الاختلاف هو الاختلاف غير المبني على الدليل، والناشئ عن الهوى والتشهي، وهذا الاختلاف المذموم سببه التعصب المقيت الذي يؤدي إلى الشقاق والنزاع والتبديع والتفسيق، وغالبًا ما ينشأ عن ادِّعاء الاجتهاد من قبل بعض من يتصدَّر للإفتاء، مع فقدانه أدواته.
ويؤكد الدكتور الخصاونة أن الفتوى ليست منفلتة لدى الدوائر الرسمية، فلكل دائرة منهج محدد في الفتوى يوصل إلى الحكم الشرعي، وإنما الانفلات لدى بعض وسائل الإعلام التي تأتي بمن هو ليس أهلاً للفتوى وتصدره للجمهور على أنه "المفتي والعالم"، داعياً أخذ الفتوى من مصادرها الموثوقة. وعلى المسلم أن يحرص على سلامة دينه، ويعرف عمّن يأخذ فتواه، مشيراً إلى أن هناك تعاونًا غير مباشر مع دور الإفتاء الأخرى من خلال الزيارات المتبادلة، وكذلك تبادل المنشورات، والاطلاع على آخر الفتاوى من خلال المواقع الإلكترونية، ومؤكداً أن الفتاوى الشاذّة التي لا تعتمد على الأسس العلمية لا نأبه بها ولا نرد عليها، لأن من أفتى بها اتبع الهوى وسلك غير سبيل المؤمنين، وخالف المقاصد الشرعية.
الضوابط الشرعية
ويؤكد الدكتور شوقي علام مفتي جمهورية مصر العربية أن الفتوى أمانة ومسؤولية ولا يجوز أن يتصدى لها إلاّ العلماء الموثوق في علمهم، ومن الضروري ألا يتصدى أحد لهذه المسؤولية الكبيرة إلا إذا كان مؤهلاً لها وقادراً على حمل أمانتها.
ونحن في الأزهر ودار الإفتاء نؤمن بالحرية الفكرية ونمارسها في ظل الضوابط الشرعية، ولذلك لا نصادر حق أي عالم مؤهل للفتوى في القيام بواجبه، ولذلك نحن ضد وضع قيود على العلماء، لكننا نطالب في الوقت نفسه بعدم تصدي غير المؤهلين للفتوى، فالفتوى كما قلت أمانة ولا ينبغي أن يتصدى لها إلا المؤهل لها والقادر عليها، وفيما يتعلق ببعض الفتاوى الغريبة أو الشاذة التي تصدر عن بعض العلماء ننبه إلى أنه لا ينبغي أن نقف عند هذه الفتاوى ونضخمها وندين الإسلام بها، فالإسلام لا يقر إلا كل ما هو راق من السلوك وينحاز دائمًا إلى ما يحقق مصلحة الإنسان ويرقى به، ولذلك من الخطأ أن نقف عند فتوى صدرت هنا أو هناك ونحاول إدانة الإسلام بها، فالإسلام أرقى من أن نحصره في قول مهما كان قائله أو فتوى مهما كان مصدرها.
محاصرة الأدعياء
وينبه مفتي لبنان الدكتور عبداللطيف دريان على ضرورة نشر الوعي بين الناس بأهمية اللجوء إلى العلماء والفقهاء، وهم - ولله الحمد - موجودون في كل مكان، والوصول إليهم أصبح سهلاً وميسوراً، وفي كل بلادنا العربية - على سبيل المثال - تتعدد وتنتشر مراكز ولجان الفتوى التي تضم العلماء المؤهلين للإفتاء، وعندما يدرك المسلم أن الفتوى لها شأن عظيم، ويتم أخذها من العلماء سيتم محاصرة الأدعياء الذين لا يدركون خطورة الفتوى، ولا يهابونها كما يهابها كبار العلماء؛ فالمستفتى عليه مسؤولية يجب أن يدركها، وهؤلاء الذين يتجرؤون على الفتوى يجب أن ننصحهم ونحذرهم من التصدي للحديث في أمور الحلال والحرام دون تأهل واستعداد علمي ونفسي، فالفتوى أمرها جليل وشأنها خطير، والإقدام عليها بغير علم واستعداد وتأهيل يعرض الإنسان للعقاب الإلهي؛ وقد ذكر الله تعالى الاجتراء على الفتوى مقرونًا بالشرك، والكبائر، والفواحش، والآثام؛ فقال سبحانه {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (33) سورة الأعراف، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه" رواه أبو داود، كما أنه يجب على وسائل الإعلام المتنوعة أن تقوم بواجبها في محاصرة أدعياء الفتوى وعدم فتح نوافذ لهم لنشر جهلهم على الناس.