أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أتحدث اليوم عن أصحاب شواهد الحال المتواترة الذين تجب موالاتهم والتقرب إلى الله بمحبتهم.. ومنهم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز قدس الله روحه، ونوَّر ضريحه، وهو فقيد العالم الإسلامي المعاصر اليوم في العلم الشرعي والفتوى ممن لم يُعمهم ويُصمُّهم هوى البدعة المتوارثة حمية عن غير برهان، وعن غير حرص على طلب البرهان خارج تكايا المبتدعين المتوارثة، وكان رحمه الله شجى في حلوقهم.. ثم نُعِيَ سماحتُه يوم الخميس الموافق 27 - 1 - 1420هـ، وصُلِّي عليه يوم الجمعة بالمسجد الحرام بمكة المكرمة، ودفن بها.. فـ{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
قال أبوعبدالرحمن: حديثي عن سماحة الشيخ ابن باز علمياً - وهذا أمر مهم جداً -، وميزاته التي تجعله قريباً من الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في عمله ومنهجه العلمي.. ولئن ذكرتُ أثر فقدان العلماء في الأمة فإنني حريص على تحرير مفهوم آية كريمة رددها كثير من الذين رثوا سماحته، وأضع ما بني على ذلك في مكانه كقول أحمد بن غزال:
الأرض تحيا إذا عاش عالِمُها
متى يَمُتْ عالم منها يَمتْ طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلَّ بها
وإن أبى عاد في أكنافها التلفُ
قال أبو عبدالرحمن: أهم وأجلى وأنفع ميزة للشيخ أنه علم ليعمل، وتوسَّع في العلم الأخروي النافع، ولم يخلط معه شيئاً من علوم الدنيا إلا ما كان من علوم الآلة لخدمة الشريعة كالنحو.. وكان رحمه الله لا يلحن في حديثه العادي، ولا تدور العامية على لسانه.. ولم يطلب العلمَ لمجرد التلذذ والمتعة والمثاقفة والمسامرة والشهرة، بل كان علمه تعبُّداً في ذاته، ولأداء العبادة وَفْق الأمر الشرعي، ثم صار العلم لذَّته؛ لأن لذته في العبادة.. وأبحر في العلم الشرعي حتى كان مرجعاً للعالم الإسلامي، وكان كل متورِّع لا يستريح إلى غير فتواه.. وأما العمل فكان مشمِّراً متبعاً سمت كبار الصحابة ومن ندرت سيرته من التابعين ومن بعدهم كالإمام أحمد رضي الله عن جميعهم؛ فأخذ على نفسه الحلم طبعاً وتطبعاً.. وأخذ نفسه بالجد في الدعوة إلى الله، والصبر على الأذى في ذلك.. وأخذ على لسانه ووقته ومجالسه البعد عن الفضول، والقول الجارح، والاشتغال والصلف والصخب، والاشتغال بغير العلم الشرعي، والانتقام للنفس أو الغضب لها.
قال أبوعبدالرحمن: وحضرت غداءه يوم جمعة مع ضيف عنده من آل الجرباء، وكان حديثنا عن الأنساب؛ فصرفنا عن ذلك بلطف، وإذا طرحت مسألة علمية في مجلسه، وطال حولها الجدل قطعه بقوله: «سبِّح سبِّح».. وأغلظ قول سمعته منه رحمه الله: إن القارئ يقرأ عليه في البيت بعد صلاة الجمعة والشيخ يشرح.. إلا أن بعض الحاضرين يتظاهر بالعلم، ويسابق الشيخ بالشرح؛ فلما نفد صبر سماحته التفت إليه، وقال له: (تأدَّب.. الدرس لي)، وليس لك. وكان رحمه الله مواظباً على الصلاة جماعة إماماً ومأموماً، مداوماً على النوافل: من السنن الرواتب، والورد، والوتر والتهجد، وصلاة الضحى، وصيام التطوع، والحج والعمرة.. شغل كل وقته - مع قلة النوم - باستماع الذكر، والفقه، والحديث، والتفسير، والشرح، والمحاضرات، والوعظ، والفتوى، والعمل الرسمي، والسعي في حوائج المسلمين ومصالحهم الخاصة كالشفاعة، والعامة كالحسبة).. هذا ديدنه مدى عمره لم يتغير مدى حياته، ولا يتراخى لكسل وخمول أو أثر عارض يستطيع مقاومته.. وكان مزحه حقاً، وكان ضحكه ابتسامة لا قهقهة.. وكان سليم القلب، محباً الخير للأمة، حريصاً على هداية الناس، وكان يتعامل معهم على ظواهرهم وعلى أصل العدالة في المسلم.. وذلك كما في دين ربه حتى يبين له ما يخالف الظاهر.. ولما بان له رحمه الله كثرة الغش والكذب والتدليس كان يتثبت فيمن يشفع لهم في الديون بطلب التوثيقات الثابتة وتعريفات العدول المعروفين، وكان في مسائل الطلاق يسمع من الزوجين معاً، أو يسجل إفادتهما لدى أحد المشايخ، وصارت فتواه بمقتضى إفادة محررة مكتوبة من المستفتي في القضايا المهمة.. وكانت دعوته ونصحه بالتي هي أحسن، وكان يُقدِّم لها بالدعاء والابتهال، ويختتمها كذلك، وربما فاضت عبرته إذا كان النصح في أمر مزعج.. ولم يطمح لزينة الدنيا ومتاعها، وقد كرر عليه أحد أمراء القرى في مناسبة زواج أن يمنحه أرضاً كبيرة في تلك القرية، وردد ذلك كثيراً - وكان عامياً مجتهداً -، فصرفه عن الحديث بلطف، ودعا له وشكر له.. وكانت الديون تتراكم عليه في سنين مضت؛ لسعة كرمه ومواساته للمحتاجين، ولم يخرج من بيت الطين بشارع العطائف إلا بإلحاح شديد من المسؤولين، وبدعوى أن منصبه الرسمي يقتضي سكناً مناسباً؛ لأجل كبار الوافدين عليه وكثرتهم.. ولم يكن كرمه رحمه الله مباهاةً وتكلفاً، ولا انتظامَ دورياتِ ولائم تُشغل بالفضول، بل كان بذلاً لوجه الله سبحانه، وكان جمهور ساحته من المحتاجين والغرباء الذين لا يرجو منهم غير ثواب الآخرة.. ومن زاحمهم مثلي بعض المرات؛ فإنما يأتي محبةً وتبركاً بطعام عالم عابد ورع كريم، وكان إذا حزبته الفتوى، وبيَّت النية على اختيار الحكم: أرجأ البتَّ حتى يصلي صلاة الاستخارة.. إنه تعلَّم وعلَّم من أجل الآخرة، وشمَّر للعمل من أجل الآخرة، وحقَّق كل علم وعمل بنية العبادة؛ فحقَّق بذلك مفهوم العالم بالله، العالم بأمر الله الشرعي.. العامل بما علم اعتقاداً وقولاً وفعلاً بلا مسامحة أو تسويف أو كسل، وعلم اللهُ من نيَّتِه ما علم؛ فكان مُعَاناً على الأداء في شيخوخته وشبابه.. وذلك منتهى الإمامة في الدين علماً وعبادة.
قال أبو عبدالرحمن: وقد قلتُ في قصيدة لي بعنوان (شيوخ زماني نوَّر الله تُربهم) هذا البيت في سماحته:
أَعُدُّ ابنَ بازٍ نافلاً أهلَ جيله
بكل خصالِ الخير والناس شُهدُ
وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
- عفا الله عني وعن جميع إخواني المسلمين.