د. فهد بن أحمد النغيمش
أحدثت الطفرة الإلكترونية التي يعيشها العالم اليوم ثورة تحولية في نظم الاتصالات وأساليبها وطرائقها والوصول إلى العقول البشرية والمفاهيم النفسية بطريقة سريعة ومؤثرة، الأمر الذي انعكس على تغير كبير وجذري في طباع الناس وعاداتهم وتعليمهم واطلاعهم ولا شك أن تلكم النتائج دفعت بالبشرية سنوات عديدة نحو الأمام، مقارنة مع ما كان البشر عليه قبل أكثر من قرن، لكن الملاحظ والمعتاد أن لكل نجاح وتقدم ضريبة عكسية سلبية قد يستعظم شررها وقد يستفحل خطرها إذا ما أحسن الإنسان استخدامها وحاد بها عن هدفها وغايتها التي من أجلها أُنشئت والذي نشاهده اليوم عبر قنوات التواصل الاجتماعي بكل وسائله وتقنياته الحديثة ليس خروجًا عن المألوف فقط بل هو غاية في الانحطاط الأخلاقي وقلة الذوق وتدنٍ في مستوى الأدب العام حتى لو قُدّر لنا أن نسأل مصطلح (التفاهة) عن مدى تقبله لذلك لربما أنكره ومجَّه ورفضه!!
نظام التفاهة يعرفه الفيلسوف الكندي المعاصر (آلان دونو) في كتابه «نظام التفاهة» بأنه هو النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على معظم مناحي الحياة، وبموجب ذلك يتم مكافأة الرداءة والوضاعة والتفاهة بدلاً عن الجدية والمثابرة والجودة في العمل.
العالم اليوم صار قائمًا على هذا النظام، بل إنه يصنعه صناعة، ويدفعه دفعًا ليسود ويسيطر. فأينما وليت وجهك، شرقًا أم غربًا، أو أي اتجاه رغبته، فإنك تجد مصانع منتشرة للتفاهة تفاهة في تناول أمور الدين وتفاهة في تناول كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة واستخدامهم كمحتوى مضحك وممجوج ناهيك بتفاهات تتعلق بالحياء والستر والخروج عن تعاليم الدين الإسلامي والأعراف الاجتماعية نشأنا عليها وترعرعنا!!
نحن أمام طوفان من الغثاء الذي يقوده مجموعة من الحمقى والمغفلين وقلّ أن تجد من يقدم محتوى هادفًا إلا ما ندر بيد أنه حتى لو قدم ذلك لما رأينا له عددًا يضاهي عدد أولئك التافهين!
محتواهم الأساس هو أن تضحك الناس وأن تصنع سخرية واستهزاء وتكسب متابعين جددًا وبالتالي تحصل على الشهرة ولو كانت شهرة في مذمة أو نقص ولا تسل بعد ذلك عن كمية الغرور ولغة التعالي في نظرتهم وتخاطبهم مع الآخرين!!
(حب الشهرة أعلى مراتب التفاهة) مقولة تكاد تكون الأصدق والأقرب لحال التافهين الذين يعيشون بيننا. ويعتقدون أن ارتفاع الصوت أو جمال الشكل هو أساسٌ للتميز!! وما علموا أن الجمال بلا عقل خواء لا يكسب المرء إلا نقصًا وازدراءً..!!!
التافهون اليوم للأسف يتصدّرون المشهد في كل مكان بحثًا عن شهرة مؤقتة زائلة..
قد نلوم هؤلاء المشاهير الفارغين من أقل درجات الأدب في تناولهم لكثيرٍ من القضايا الاجتماعية إما لنقص في درجة تعليمهم أو تفكيرهم أو لخلل في تربيتهم ونشأتهم أو لجشعهم ولهثهم المستعر للحصول على المال بأي طريقة ولو على حساب أخلاقهم ودينهم!!!..لكن لا بد أن نكون منصفين أكثر ولا نلقي باللائمة عليهم وحدهم فهناك من صنعهم وصفق لهم وأبرزهم وسعى في إظهارهم حتى أصبحوا من قائمة المشاهير الذين يُشار إليهم بالبنان ممن يملكون عددًا واسعًا من المتابعين وقدرًا كبيرًا من المشاهدات والإعجابات؟
أول من صنع منهم وزاد من شهرتهم أولئك المتابعون الذين ما فتئوا يصفقون لهم ويضمونهم إلى قائمة متابعيهم بل وقد يروجون لتفاهاتهم في منتدياتهم ومجتمعاتهم ولقاءاتهم دون أن يكون للعقل تمحيص أو تدقيق وتفريق بين الغث والسمين!
وتزداد ظاهرة انتشارهم في المجتمعات بقدر شيوع ثقافة الفضول «اللقافة» من المتابعين لكل ما يكون ذا خصوصية أو ينقل من داخل البيوت ويزاد السوء سوءًا عندما تتبنى جهات إعلامية لمثل تلكم النماذج بحثًا عن مادة مشوقة وجذابة وتصديرهم كنماذج عصامية ومشهورة أمام الشباب على المنصات والمنتديات أضف إلى ذلك تسابق الشركات والمؤسسات وبعض المهرجانات للأسف لاستضافتهم وترويج إعلاناتهم لهم على أنهم من صنّاع التأثير في المجتمع وإذا سلمنا بعدد المتابعين وتأثيرهم فأي تأثير نتكلم عنه هل تأثير إيجابي أم سلبي؟ نحن هنا نذكي جمرة تسطيح الأخلاق والآداب العامة ونجعل من التافهين مؤثرين وهم في الحقيقة يقضون على ما تبقى من قيم وأخلاق في ناشئتنا وفي نسائنا وبيوتاتنا!
وضع التافهين اليوم يحتاج منا إلى أن نتوحد في الحد من توسعهم وانتشارهم وأن تفعل الأنظمة والقوانين التي تحمي الذوق العام ضدهم حتى لا يأتي يوم ننشد ما بقي من أخلاق كريمة وتربية سليمة في أبنائنا ومجتمعاتنا فلا نجدها.