(خواطر وحديث نفس عن أيام العزاء الثلاثة هي كسبائك الذهب لمن ابتلي بفقد عزيز عليه)
الحمد لله أهل الثناء والحمد
والتسليم لقضائه في اليسر والعسر
خمسة عشر عاماً هي عمر عبد الملك الغلام الهادئ المحبوب الابن الأصغر لأخي الأكبر منصور، ذاك العمر الذي كتبه الله له عندما كان حملاً في بطن أمه، هذه الحقيقة التي لا يستطيع أحد أياً كان أن يردها أو يرفضها أو يعترض عليها لأن المسلم يسلم أمره كله لله، فالأمر له من قبل ومن بعد، ومن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط.
من ناحية طبية لم يكن الوضع الصحي لعبد الملك مقلقاً ولا خطراً، كانت مجرد التهابات في الجيوب الأنفية وشيء من صداع تطورت إلى أن كونت صديداً ارتفع إلى العينين، وصف الطبيب العلاج له لتخف الحالة، ثم تنتكس الحالة بعد صلاة الجمعة لينقل بعدها لمجمع الملك عبد العزيز الطبي بالحرس الوطني بالخشم العان، وعلى وجه السرعة قرر الأطباء أن الصديد وصل إلى المخ ولا بد من إجراء عملية عاجلة لإزالته، تمت العملية وبقي عبد الملك على الأجهزة الصناعية إلى ظهر الاثنين الذي أبعدت فيه الأجهزة وأعلنت بعدها وفاة عبد الملك، والتي وقع خبرها كالصاعقة.
إذ لم يدر في خلد أحد مع صخب الحياة وازدحام الأحداث أن الموت سيقع على شاب في مقتبل العمر وعمر الزهور بلا حادث مروري مروع ولا مرض خطير، ولكن الإنسان لضعفه ونسيانه يغيب عن ذهنه أن الموت لا يعرف صحيحاً أو مريضاً ولا يميز بين صغير أو كبير، بل يخطف الجميع بأمر الله وقضائه وقدره سبحانه.
سمى الله الموت مصيبة فقال (فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ) وأي مصيبة أعظم في حسابات البشر بعد فقد الدين من فقد الأحبة والأهل!؟
إنها لحظة عودة الوعي الشعوري للذهن بعد انجلاء الغبش عن آثار الصدمة، ليقف المسلم مسلّماً أمره إلى الله محققاً بالفعل لا بمجرد القول للركن السادس من أركان الإيمان (القضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره).
تعطي مغسلة الأموات لمن يقف أمامها حقيقة صامتة لكنها صادقة، وهي أنّ:
كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمولُ
وأنّه:
هو الموت ما منه ملاذ ومهربُ
متى حطّ ذا عن نعشه ذاك يركبُ
عشرة نعوش حملت عشرة أحبة عند أهلهم وذويهم ما بين ذكر وأنثى وكبير وصغير . أُديت عليهم صلاة الميت بعد صلاة عصر يوم الثلاثاء 20 - 12 - 1443هـ كان من ضمنهم ابننا عبد الملك.
وصلنا المقبرة تحت درجة مئوية أعطى المؤشر في السيارة قدرها بسبع وأربعين، في الطريق حدثتني نفسي بأن أحضر الماء البارد مع هذا الجو الحار إلا أنني خشيت من التأخر، وكذلك تذكرت الأعداد الجيدة التي تحضره، وبالفعل كانت الكميات كبيرة مضاف إليها من أهل الخير جزاهم الله كل خير مجموعة من الشمسيات التي تقي من لهب الشمس.
التقى شيخنا المبجّل زيد بن عبد الله آل المغيرة بمجموعة من طلابه وكان درّس بعض إخوان الفقيد وبعض أبناء عمومته، واثنين من أبنائي، وتعجبت من لطف أخلاقه وحرصه على تتبعهم وتتبع أصدقائهم الذين حضروا الدفن، وتعزيتهم واحداً واحداً، ثم إني رأيت كثيراً منهم متحلقين حوله يقبلون رأسه ويقدمون له الحب والوفاء الذي غرس بذرته فيهم . شكر الله سعيه ووفقه وسدد خطاه وأعلى درجته في الجنة.
بعد رصف بلاطات اللحد - وكانت من الرخام لا من اللبن - وتلقي العزاء من المعزين في المسجد وفي مقبرة المنصورية (الواقعة جنوب الرياض) عدنا للبيت كلنا أمان حالمة أن ما مرّ علينا كان حلماً مؤلماً أفقنا منه بعد نوم عميق، لكن لا راد لقضاء الله ولا معقب لحكمه سبحانه.
طبقات الناس مختلفة ودرجات الوفاء بينهم متباينة، صلى معنا على الفقيد أناس كنا نستبعد حضورهم، وفقدنا بين صفوف المصلين من لم يخطر على البال فقدانهم، مع عدم اعتذارهم!
اتصالات كثيرة اعتذر أصحابها بالسفر، والسفر أمر متوقع في إجازة صيفية جاءت بعد أطول عام دراسي مرّ علينا كباراً وصغاراً، وفقهم الله وسدد خطاهم، وهم بإذن الله مأجورون على طيب مشاعرهم وجميل دعواتهم.
على الرغم من انحصار كورونا - أزالها الله عن المسلمين - إلا أن أناساً ما زالت تداعياتها أمام أعينهم فبعضهم لا يزال يعيش بعقلية الحذر من الاختلاطات أياً كانت، ولعل مثل هؤلاء مروا بتجارب مريرة جعلتهم يغلبون جانب الحذر بصورة كبيرة، إلا أنني تعجبت ممن كنت أعده كالأخ يكتفي في التعزية برسالة واتساب نسخها ولصقها، وعلى كل حال لكل ظروفه.
زارنا معزياً من ضمن مئات المعزين في بيت أبي مشاري اللواء خالد الحركان جارنا في بيت الوالد القديم في حي الشفا بجانب متوسطة ثمامة الحنفي، ولم تكن بنيت آنذاك. كنت أتذكره وأنا طفل، جمعنا عزاء عبد الملك رحمه الله بعد أربعين سنة.
أثر في نفوسنا تعنّي وحضور من هو معذور لكبره ومرضه، عمي سليمان بن سالم بن عبد الله الطليحي لم يؤثر فينا حضوره فحسب، بل أثرت فينا أيضاً عبراته وعباراته ومواساته ودعواته فحفظه الله وأمد في عمره على طاعته وشفاه وعافاه.
كما ضرب الأشبال من أصدقاء عبد الملك صورة جميلة من صور الوفاء إذ توافدوا معزين منذ اليوم الثاني، قدرت عددهم بعشرة تعلوهم البراءة مختلطة بالرجولة وتقدير واجبهم تجاه صديقهم الفقيد.
أقف مذهولاً أمام مسافر بالسيارة جاء من خارج المملكة بمسافة تزيد على ألف كيلو متر، دخل الرياض واتجه مباشرة إلى منزل عديل روحه وصديق شبابه وكهولته أبي مشاري؛ ليخفف عنه مصابه ويشاركه آلامه وأحزانه في صداقة عمرها يقرب من نصف قرن، ذلكم أيها السادة الأفاضل هو السيد الشهم أبو سلطان عادل بن محمد الحزيم.
من لا أرى أن يتجاوزه قول الشاعر:
إنّ أخاك الصدق من كان معك
ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدّعك
شتّت فيك شمله ليجمعك
ولأن:
مصائب الدهر أشكال منوعةّ
هوى لها أحد وانهدّ ثهلانُ
فقد جرّ الحديث بعضه بعضاً، إذ قدم أحد المعزين الأقرباء من عزاء بعض المعارف ممن توفي في نفس اليوم الذي توفي فيه عبد الملك، شاب عمره خمسة وثلاثون عاماً خلف وراءه أرملة وطفلين يتيمين، - كان الله في عونهم - ، مات وهو في عز شبابه بسكتة قلبية، والحقيقة أن كل ما في الأمر أن أجله قد أتى رحمه الله وغفر له (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلا بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً).
ذكر بعض المعزين قصة رجل سافر إلى مصر منذ زمن يسبق الجوالات في حين سافرت زوجته وأبناؤه وبناته لإحدى مدن المملكة، وفي أثناء عودتهم وقع لهم حادثٌ مروع وماتوا جميعاً، وعندما عاد الرجل إلى بلدته والشوق يدفعه للقاء أسرته فوجئ بخبر وفاتهم جميعاً، ثم إنه صبر واحتسب وتزوج وأنجب وأبدله الله من الأولاد ما يفوق أولاده الذين فقدهم، أسأل الله أن يتغمدهم جميعاً بواسع رحمته ومغفرته ووالدينا وموتانا.
عقّب معزّ آخر بقصة مماثلة إلا أن رب الأسرة هذه المرة كان مع أسرته عندما وقع له معهم حادث اصطدام لشاحنة قطعت إشارة التوقف الحمراء، ليلقى جميع أفراد الأسرة أجلهم المحتوم رحمهم الله وغفر لهم.
وفي ترجمته لعروة بن الزبير بن العوام ذكر ابن خلكان بعد أن ذكر من محنته لفقده لولده ورجله (ج2، ص 118 - 131):
«وقدم تلك السنة قومٌ من بني عبس فيهم رجل ضرير، فسأله الوليد عن عينيه، فقال: يا أمير المؤمنين، بتُّ ليلة في بطن وادٍ ولا أعلم عبسيًّا يزيد مالُه على مالي، فطرقنا سيلٌ، فذهب بما كان لي من أهل وولد ومال، غيرَ بعيرٍ وصبي مولود، وكان البعير صعبًا فنَدَّ، فوضعت الصبي واتبعتُ البعير، فلم أجاوز إلا قليلاً حتى سمعت صيحة ابني ورأسُه في فم الذئب وهو يأكله، فلحقت البعيرَ لأحبسه، فنفحني برجله على وجهي، فحطمه وذهب بعيني، فأصبحت لا مال لي، ولا أهل، ولا ولد، ولا بعير، فقال الوليد: انطلقوا به إلى عروة؛ ليعلم أن في الناس مَن هو أعظم منه بلاء.
هذه المصائب المتتالية والبلايا المتتابعة التي قدرها الله على البشر في هذه الحياة الدنيا تبين للعاقل أنها دار بلاء وابتلاء، وامتحان وتمحيص، وأن الراحة لا تكون إلا عندما يطأ الواحد منا بقدمه أول خطوة في الجنة، نسأل الله أن يجعلنا ووالدينا وأحبابنا من أهلها.
لقد علمتني هذه الأيام الثلاثة التي ذقت فيها مرارة فقد أحد أولادنا أن الحب في الناس لا يزال بخير، وأن الوفاء الجميل فيهم كثير، وأن الأقارب ليسوا كما يقول الجهلة عقارب، بل هم عون في الشدائد وتسلية في المصائب.
وفي الختام أقول:
(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)، اللهم اغفر لعبدك عبد الملك وارحمه، وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسّع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وجازه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً، اللهم وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، واجعل ما أصابه تكفيراً لذنوبه ورفعة لدرجته في الجنة، واجمعنا به ووالدينا في الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم ولا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره، واغفر لنا وله، وعظّم الله أجورنا جميعاً وأحسن عزاءنا وعزاء والديه وجده وجدته وعزاء إخوانه وأخواته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته.
والحمد لله على ما قضى وقدّر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
** **
د. عبدالرحمن بن سلطان الطليحي - الباحث في تاريخ الفكر الإسلامي