د. شاهر النهاري
تحولات عجيبة مواكبة لتعاظم التقنية حدثت في جميع المجتمعات البشرية في السنوات الأخيرة، تلك النقلة التي استطاعت تبديل أغلب المفاهيم لدى الأفراد والمجتمعات والحكومات العالمية، بحضور وتغلغل وتبحر التقنيات الإليكترونية ووصولها إلى أغلب الأيدي دون تحديد لعمر أو ثقافة أو مكانة، وبما يشبه السرطان الانشطاري في انتشاره السريع العشوائي، وما يشوبه التخوف والتفاؤل أثناء النظر للحالات، التي صاحبت ذلك من تغيرات نفسيات وأحوال مجتمعية، ومن تطور في نفس الوقت، وقدرة على البحث والتقصي والتعلم، وبالتالي خلق فلكا خاصا بكل فرد، يكاد أن يكون معزولا ماديا عن الآخرين ومتصلا بطرق افتراضية، وبما فيه من تعود ومعلومات وتطلعات وأسرار وربما التدني أو الانكشاف أكثر، وبلوغ شيوع الأسرار الشخصية، لمن يعيشها منعزلا في عالمه الافتراضي عن عوالم مجتمعه، بل حتى عن أسرته، وأقرب أصدقائه، في حال كان له أصدقاء فعليون، وليسوا افتراضيين، لا يعرف عنهم الكثير، ولكنه يفتح لهم سراديب نفسه ويبوح بالخافي، ويطلعهم على الكثير من أدق تفاصيل حياته ونقاط قوته وضعفه، وهنا تكمن الخطورة المتفاقمة، والتي تزيد بالتساهل والتمادي يوما عن يوم، حتى لا يعود يمكنه إيقافها، أو التخفيف منها، وربما بالاضطرار للعيش في عدة حيوات، بتعدد شخصيات، وتشرذم نفسي، وربما وصوله إلى فقد الخيوط الرابطة بين العوالم، ما يجعله هجيناً من عجين وخيال وفبركة.
ونعود للعنوان بنوع من الخصوصية، فهل كنا في السعودية بالذات، «مجال البحث»، قادرين على تقبل هذه القفزة الهائلة وهضمها والتعامل معها، وأين نحن مما يحدث فيها، وهل يمكننا التغلب على مساوئها، مع المحافظة على ما فيها من فوائد؟
السعودية بلد غني مع وجود فوارق بين طبقات الشعب، ولكن ذلك يعم في وجود القدرة النسبية، ولو بتنوع فوارق عظيمة في امتلاك نوعية الأجهزة الإليكترونية، التي تسهل استخدام والتعايش مع عوالم التقنية الجديدة، وبشكل قد يفوق كثير من الدول، وهذا لم يكن فقط منذ الأمس القريب، حيث كان الشعب السعودي سباق في دخول مجالات الانترنت، وكم عانى من مراحل التطور والتغيرات والتجارب السريعة غير المدروسة عن نوعية الأجهزة، والشبكات، وامكانياتها المحدودة والمفتوحة، ولكن ذلك ظل مطمعا للسعودي، الذي ربما يصرف عليها الكثير من ممتلكاته، حتى يكون طوال الوقت معدودا من القادرين، والعارفين، والسباقين، بل إن كثيرا من أجهزة التقنية أصبحت جزءا من الزي، والأناقة، ومن التدليل بحداثة وغلاء ثمن المنتج على قيمة المستخدم بين الناس، وقد زاد الكثير على ذلك بأن أصبحوا يحملون معهم عددا كبيرا من الجوالات، والساعات الاليكترونية، والأجهزة المختلفة، وربما يقوم أحد سائقيهم أو مرافقيهم بحمل تلك الأجهزة، للتدليل على أهمية الشخص، وقيمة وقته، وضرورة بقائه على تواصل مباشر مع عدد كبير من الجهات يفرد لكل منهم رقم خاص وايميل وما يتبع من برامج ومواقع تواصل.
الشعب السعودي جرب بنفسه خطوات التعلم من أولها، وعاند وتداخل مع التيارات الفكرية والسياسية، وكان يمر بالتجارب الأخلاقية، والأضرار، التي يجدها في طريق تعلمه، وكم كان يفصل بين واقعه في أسرته والمجتمع عن الحياة الافتراضية، لأنه يدرك أن هنالك مساحات غامضة تكمن في الوسط، رغم فائدتها إلا أن بها الكثير من الضرر على نفسيته، وعلى صورته الخارجية، وعلى تواجده بالشكل الذي يتمناه لصورته في مجتمعه، مع وجود الفوارق وتعدد الشخصيات، ومشاعر القوة والضعف وتحطم الأمنيات في مرات عديدة، عندما يعجز عن دفع مصاريف تقنياته.
المنظر السعودي الآن بين الأشخاص والأجهزة أصبح يشكل صورا غريبة حطمت وبنت الكثير، ويشترك في تكوينها الكبار والصغار، النساء، والرجال، والأخطر أنها تشيع في الأعمار الصغيرة البريئة، فتشاهد حتى الرضع لا يتوقفون عن صراخهم وشقاوتهم، ولا يهجدون حينما لا يجدون من يهتم بهم ويحدثهم، ويسليهم، إلا بتلك الشاشات الملونة، التي حشرتهم في الخيال، وأفسدت عليهم إنسانية العلاقات الأسرية وقيمة عواطفهم، وجزءا عظيما من قيمة الوالدين، الملهيين بدورهما بأجهزة يحملانها وتحملهما، فلا يمتلكان إلا فواصل من الوقت المتهافت يهبونها للصغار بضجر، إما لشحن وتضبيط، أو لتغيير القناة، التي يتابعها الطفل، والعودة لأجهزتهم.
كما أن كبار السن أيضا، ممن لحقوا وتعلموا بعض رتوش التعامل مع تلك الأجهزة أصبحوا ظاهرة مخضرمة، في الالتصاق بالأجهزة، كونهم يعانون كثيرا من الوحدة، ومن عدم وجود من يرد عليهم الصوت، فترى بعضهم صامتا أو يضحك بهستيريا، بل إنه قد يغضب ويزبد على الجميع، لمجرد عدم قرب شاحنه، أو أن البرمجة في جهازه لم تعد تؤدي المطلوب منها.
نوعية ما يتم متابعته في مخارج تلك التقنية، يبدو على شكل تسلية وضحك، وغربة أحداث ومقالب، ومعرفة للأحداث، وردو د مسكتة، ولكن الكثير منها يحمل معاني التفسخ، والإغواء الجنسي، وكم يتورط المتهورين محبي المغامرات، وممن لا معرفة أصيلة لديهم بطرق التعامل مع الاغراءات، وحماية أنفسهم من التورط في عمليات الاغواء والنصب والابتزاز، التي تشيع كثيرا، ويخجل أصحابها من مجرد ذكرها، وقد لا تكتشف إلا بعد حين، وبفضيحة، وعندما يعجز صاحبها من مسح صفحات تصفحه، فيتورط.
سياسيا تمكنت هذه التقنية من فتح مجالات للتصفح، الذي يعتبر محذورا، وهنالك الكثير، ممن يجرهم مجرد الفضول، إلى ساحات، ومواقع، ومناقشات تظهرهم بأشكال المتمرد أو المتخبط.
وقد لا تكون هذه الأحوال تحدث فقط للسعودي، فأغلبية البشر يوجهونها، ولكن مع اختلاف في قدرة التعلم والحرص، والوقاية، وتعمد عدم المبالغة.
الواقع السعودي يصارع ذلك، وحتى أن بعض الآباء يشرعون إلى تقييد أجهزة أبنائهم الصغار بالأغلال لمنعهم من الوصول إلى جهات مستفيدة من الخلل، ولكن ذلك لا يكفي، وقدرة الطفل في التحايل والبرمجة تتقدم، مع نقص المشاركة الفعلية، وتقنين ساعات التصفح، ونوعية المواقع التي يصلها الطفل.
بالنسبة لكبار السن، ولمن يتعذر عليهم متابعة قفزات التقنية، فيفضل أن يكون لهم مرشدون حريصون، للتنبيه عليهم أولا بأول، حتى لا يكونوا ضحايا آخر العمر، بأن تدفعهم التقنية لحالات التوحد، والفساد المتأخر، والمحاولات المريضة للعودة لخيالات شبابهم، واقتناص ما فاتهم، ولو بالكلام والنظر.
الوعي، يظل الأهم، ولكن في حدود عدم التضييق، وعدم اجبار الشباب وغيرهم على التمرد والإمعان في اختراق حدود التقنية، والتي لم يعد فيها مستحيلا، ولا بد من تعاون الجهات الرسمية بزرع الثقة بين الجميع، ورفع سقوف الحريات، وقيام الجهات الأمنية بأدوار مراكز الاستعلام والتوعية والثقة، وتقديم العون، والاستشارات، وتوطين الكتمان، والحث على الاستمرار بالتعلم الشعبي الذاتي، وبما تحمله التجربة في جوفها من مطبات وخطورة يمكن تحجيمها وجعلها أقل ضررا.