في دراسته للمجتمع العربي يذكر المستشرق ( فيلب كينيدي ) أن أبا نواس شاعر عبقري ، ثم يسوغ لهذا الوصف من خلال تناول حياته وشعره ليبرز المجهول من التراث العربي خلال العصر العباسي الأول.
وأورد في بحثه المكونات الثقافية لأبي نواس باعتباره شاعرا من أصول غير عربية، واضعاً قصة أبي نواس وخلف الأحمر، حين طلب خلف من أبي نواس أن يحفظ ألف بيت ثم ينساها قبل نظمه للشعر ، وإن تكررت هذه القصة باعتبارها عدة الشاعر في نظمه إلا أنها تؤكد على دور الثقافة الشعرية التي جعلت من أبي نواس شاعراً عبقرياً، فلا يمكن للشاعر أن ينسى الألف بيت لكنها أصبحت في لا وعيه ومكونا من مكوناته الشعرية وثقافته الأدبية.
وقد شهد له النقاد القدامى بشاعريته واختلفوا فيه كما اختلفوا حول كبار شعراء العصر العباسي مثل : ( أبي العتاهية - بشار بن برد - أبي تمام ) وغيرهم من شعراء ذلك العصر .
فجاء في طبقات الشعراء لابن المعتز من حكم أبي عمر الشيباني الذي يقول: « لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الرفث لاحتججنا بشعره لأنه محكم القول « .
وذكر ابن المعتز في قوله : حدثني إبراهيم بن الخصيب قال أخبرني ابن أبي المنذر قال : إنما نفق شعر أبي نواس على الناس لسهولته وحسن ألفاظه وهو مع ذلك كثير البدائع وهذا الذي يراد من الشعر.
وفي سياق تفضيله يقول الجاحظ : «ما رأيت رجلا أعلم باللغة وأفصح لهجة من أبي نواس «، وأبو عبيدة يصفه فيقول : كان للمحدثين كامرئ القيس للمتقدمين ، وأنشد له النظام شعرا ثم قال : هذا الذي جمع له الكلام فاختار أحسنه ، وقال كلثوم العتابي عنه: لو أدرك الجاهلية ما فضل عليه أحد .
وفي كتابه ( أبو نواس ) يذكر الدكتور إبراهيم عوض أن الدكتور طه حسين وعبد الرحمن صدقي يصفان أبا نواس بالشاعر العظيم ، في حين يراه الأديب إبراهيم المازني أنه شاعر ظريف مجيد في بابه، لكنه لا يرقى أن يكون من شعراء الطبقة الأولى ولو ذهب شعره كله ما نقص الأدب العربي شيئاً يستحق الذكر أو الأسف .
ولأن أبا نواس شاعر إشكالي من خلال تجديده في القصيدة العربية خاصة في تغييره لعمود الشعر العربي من الوقوف على الأطلال إلى البداية بالخمريات وما أضيف إلى الشاعر من حياته الصاخبة التي صورها التاريخ، وتقلباته النفسية والمزاجية التي ظهرت في شعره ما بين الشيء ونقيضه لذلك كان المدخل النفسي لنقده من خلال المنهج النفسي الذي تناوله العقاد، كما تناول غيره من شعراء تلك الفترة مثل ابن الرومي .
والحقيقة أن أبا نواس يعد من كبار شعراء العصر العباسي إن لم يكن من كبار شعراء العرب من الجاهلية حتى يومنا هذا ؛ فهو الشاعر الذي طرق جميع الفنون الشعرية من مدح ورثاء وغزل وخمر ومجون ووصف وهجاء بل حتى الزهد نظم فيه أبياتا خلدها التاريخ.
وتميز هذا الشاعر عن غيره من شعراء عصره ومن سبقه باستبدال افتتاح القصائد من الوقوف على الأطلال كعادة الشعراء الجاهلين بالخمرة والريحان والنرجس.
ومنها قوله:
عاجَ الشَقِيُّ عَلى دارٍ يُسائِلُها
وَعُدتُ أَسأَلُ عَن خَمّارَةِ البَلَدِ
لا يُرقِئُ اللَهُ عَينَي مَن بَكى حَجَراً
وَلا شَفى وَجدَ مَن يَصبو إلى وَتَدِ
ومن الافتتاحية بالنرجس والريحان:
أَحسَنُ مِن وَصفِ دارِسِ الدَمَنِ
وَمِن حَمامٍ يَبكي عَلى فَنَنِ
وَمِن دِيارٍ عَفَت مَعالِمُها
رَيحانَةٌ رُكِّبَت عَلى أُذُنِ
وله افتتاح يتجاوز فيه المألوف يقول فيه:
تقلبه الراح إذ تُصلى
له الأباريق بالسجود
في بيت لهو وشرب صفو
وصوت ناي وضرب عود
أما الهجاء عند أبي نواس فقد هجا الشاعر المشهور أبان اللاحقي بقوله:
جالَستُ يَوماً أَباناً
لا دَرَّ دَرُّ أَبانِ
وَنَحنُ حُضرُ رِواقِ ال
أمير بِالنَهرَوانِ
حَتّى إذا ما صَلاةُ ال
أُلى دَنَت لِأَوانِ
فَقامَ مُنذِرُ رَبّي
بِالبِرِّ وَالإِحسانِ
وَكُلَّما قالَ قُلنا
إِلى اِنقِضاءِ الأَذانِ
ومع ذلك كله كان الشاعر يعلل النفس بأن رحمة الله واسعة ولا ينبغي أن يحظرها أحد على العصاة ومن ذلك قوله :
فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً
حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ
لا تَحظُرِ العَفوَ إِن كُنتَ اِمرَأً حَرِجاً
فَإِنَّ حَظرَكَهُ في الدينِ إِزراءُ
وأبدع النواسي في الابتهال كثيرا لله - عز وجل - ومن ذلك قوله :
إِلَهَنا ما أَعدَلَك
مَليكَ كُلِّ مَن مَلَك
لَبَّيكَ قَد لَبَّيتُ لَك
لَبَّيكَ إِنَّ الحَمدَ لَك
وَالمُلكَ لا شَريكَ لَك
ما خابَ عَبدٌ سَأَلَك
أَنتَ لَهُ حَيثُ سَلَك
لَولاكَ يا رَبُّ هَلَك
وقد ذكر في الروايات القديمة أن آخر أبيات كتبها أبي نواس هي :
يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً
فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ
إِن كانَ لا يَرجوكَ إلا مُحسِنٌ
فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ
أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً
فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إلا الرَجا
وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ
وهذه الأبيات تعكس اطمئنانا مطلقا لله - عز وجل - وإيمانا بعفوه ورحمته وكرمه .
ولا يمكن محاكمة الشاعر في خياله وأخلاقه لكننا نبحث عن شاعريته وصدقة فيها، وقد نجح الشاعر في حفر اسمه كواحد من كبار شعراء العرب وظل شعره محل دراسة حتى وقتنا الحاضر .
** **
- ماجد بن عبد الهادي العرجي