فكرة الفراشة التي تحوم حول النار؛ التماساً للضوء، من الأفكار الإنسانية القديمة الشائعة. وهي تعبر عن شوق الإنسان للمعرفة، كما تعبر عن استهانته بالخطر والإصرار على الوصول إلى هدفه برغم ما ينتظره من هلاك، كما تعبر عن الجهل بوجود الخطر، وتجسّد الرّقّة في مقابل الخشونة، الفراشة في مقابل النار. ولذلك كانت هذه العلاقة المتوترة بين طرفين غير متكافئين، من الصور الأساسية التي تعبر عن الحنين، كما تعبر عن التفاني في الشعر الرومانسي العربيّ المعاصر، على النحو الذي نجده خاصة لدى إبراهيم ناجي.
وعلى النحو نفسه، يمكن أن نلمس أثر هذه العلاقة في كل صور الأدب المعاصر، ومنها رواية الكنز التركي التي تحفل بعدد كبير من العلاقات التي تعكس التوتر ما بين الفراشة والنار.
إن رواية الكنز التركي في إطارها العام تعبر عن جدل الصراع بين الرغبة في الحفاظ على الهوية والرغبة في إدراك تطورات العالم الحديث، من خلال تصوير تحولات المجتمع العربي المعاصر، في أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل وحتى الدينية. وهي التحولات التي سمحت بتجاور الأعداء التاريخيين: العربي والأجنبي المحتل.
وفي إطار هذه التحولات انبثّ عدد كبير من أصداء العلاقة بين الفراشة والنار، على النحو الذي يمكن أن يكشف عن بينة الرواية، كما يكشف عن علاقاتها ودلالاتها المختلفة، وهو الذي تهتم به هذه المقالة. ومن ثم، فسوف أركز في هذا الحديث على إبراز التمثّلات المختلفة لعلاقة الفراشة بالنار، من خلال بنية الرواية نفسها، وما حفلت به من أحداث، وما انطوت عليه من مكونات ثقافية وسردية.
ولعلّ أول ما يعبر عن علاقة الفراشة بالنار في هذه الرواية، هو ذلك الكنز التركي المفقود، الكنز الذي كان محور الأحداث في إطارها العام، إذ يسعى الأبطال منذ البداية إلى الحصول عليه، وكلما اقتربوا من الوصول إليه كلما تبدّدت آمالهم، وعاد البحث إلى نقطة الصفر، في حركة شبه بندولية، ترتد فيها الكرة من الحائط إلى اللاعب مرة بعد مرة، أو ترتد الفراشة من الضوء المحرق مرة بعد مرة.
لعبة الكنز إذن أو لعبة الإخفاء هي لب الحركة السردية، والأحداث في الرواية كلها منقسمة بين محورين: محور الإخفاء، ومحور البحث. والمحوران متوازيان طيلة السرد، ففصل للإخفاء؛ الماضي، لمختار بك بطل عملية الإخفاء، وفصل للبحث، لمهند السعدي، بطل عملية البحث. وكأن الطرفين يدوران حول بعضيهما البعض، والكنز هو المحور، هو الضوء الذي يلهب ببريقه الأعين، ويبعث الآمال، وتُبنى على حدوده المدن.
وما يعطي لهذه اللعبة حرارتها أن الرواية تنتهي ولم يصل أحد للكنز، رغم التخطيط والمحاولات المتكررة من أفراد وجهات مختلفة، وكأن الماضي (مختار بك) كان يدرك ما سوف يقوم به المستقبل (الباحثون عن الكنز)، ولذلك حرص على أن يجعل من عملية الحصول على الكنز عملية معقدة، تتكشف خيوطها (عملية الإخفاء)، رويداً رويداً، أو خيطاً خيطاً، بطول فصول الرواية، إلى درجة أن آخر هذه الخيوط لا يظهر بوضوح إلا في الفصول الأخير لظهور التاريخ/ الماضي، ولنكتشف في لعبة بوليسية أن خريطة الكنز ليست خريطة واحدة، وإنما هناك اثنتان وربما أكثر، وأن واحدة فحسب هي الحقيقية الأصلية، والباقيات مزيفات، والحقيقية لم يحصل عليها أحد.
والطريف أن من يقرأ الرواية فسوف يلاحظ أن المؤلّف خصّص فصلاً لكل من البطلين على التوالي، ومع ملاحظة أن مختار بك يمثّل الماضي، ومهند السعديّ يمثّل الحاضر، والرواية تبدأ بالماضي، وتنتهي بالحاضر، فهذا يعني أن الماضي يطارد الحاضر، وكأن الحاضر هنا هو الضوء الذي يطارده الماضي/ الفراشة، أو الفراشة/ الماضي.
والحقيقة أن هذا التصوّر ليس بعيداً عن بنية الرسائل الفنية في الرواية؛ إذ إن إحدى الدلالات الأساسية التي يمكن أن يشعر بها المتلقي، حرص الأبطال المعاصرين (مهند، ورفاقه، رغم الاختلاف بينهم في طريقة التفكير) على إدراك الحاضر، إدراك ما فيه من مظاهر (التطوّر) والالتحاق بركب الحضارة المعاصرة، على النحو الذي تمثّل في مظاهر الفنادق الفاخرة وحفلات عيد الميلاد الباذخة التي أشارت إليها الرواية، إضافة إلى التركيز على صلة رجال الأعمال بالسياسة بغيرهم من نخب المجتمع، وحرصهم على الاجتماع من أجل تحقيق المكاسب الفردية من خلال استغلال وسائل التنكولوجيا الحديثة.
ولعل مشهد حفل البنك الفرنسي على أرض عربية، والذي يجمع نخباً مختلفة الأطياف، من تجار ورجال سياسة ورجال دين ورجال اقتصاد ونجوم فن وثقافة من جهة، ورجال (ونساء طبعاً) أجانب في ذلك الحفل الباذخ خير دليل على ذلك. إن فكرة الحرص على إدراك تطورات أو بالأحرى منجزات العصر في صورة الحرص على استخدام أحدث وسائل التكنولوجيا والرفاهية من أجل صالح الجميع هي المبرّر الذي جعل هذا الخليط المتناقض يجتمع، بل ويقبل العدو؛ عدوّه التاريخي، حتى لو كان الثمن هو ضياع الهوية.
إن فكرة التطوّر في ذاتها فكرة مغرية، لكن تحت مسمى التطور يتم تمرير تصرّفات وسلوكيات غير مقبولة، فرجال الدين يصدرون الفتاوى من أجل التصريح بوجود استديوهات الفن، وبالتالي تتحوّل الساحة كلها إلى مسرح كبير يكتسب شرعيّته من تلك الفتاوى، رغم أن الخطاب الرسمي المعلن للمجتمع هو رفض ذلك الفن الذي يخرج عن حدود اللياقة الاجتماعية والشرعية.
ثمة مطاردة مستمرة بين الماضي والحاضر أيضاً، لكنها تتركز في محاولة إدراك الهوية، على نحو عكسي، فالماضي - مختار بك - يعمل طيلة الرواية، على تثبيت الماضي، ورأب الصدوع التي داخلته، ليحافظ على الدولة العثمانية الكبيرة من الاندثار، حتى لو كان ذلك من خلال تغيير العلاقة بين الإمبراطورية القديمة والتحولات الحديثة للمجتمع، أي من خلال السماح الظاهري لكل أمة داخل تلك الإمبراطورية بإظهار قوميّتها الخاصة.
ومن ثم يستمر الجدل من بداية الرواية بين مطارد للهوية وهوية هاربة، تتفكّك معالمها بتفكك معالم الدولة. أي أن الهوية في هذه الحالة هي النار، بينما المؤمنون بهذه الهوي- مختار بك ورفاقه - هم الفراشة التي تطارد الحلم القديم، وتسعى إلى تثبيت الزمن في حضوره.
وعلى مستوى موازٍ، يسعى مهند السعدي - ممثّل الحاضر - إلى إدراك هويّته أيضاً. وهي هوية مراوغة، بين القومية العربية / الإسلامية، والهوية الوطنية لوطنه. وكلاهما يمضي في مسار مختلف، وإن تشابها وتقاربا في بعض اللحظات. وفي الأخير، وبعد أن تضني مهند السعدي محاولات إدراك تلك الهوية، يجد نفسه وقد قبض على اللاشيء، وأن هوّيته ضائعة بين النظر إلى الماضي الذي يستمد منه القوة، والنظر إلى الحاضر الذي يفكك تلك القوة. ومن ثم، ومرة أخرى، يتحوّل البحث عن الهوية إلى مطاردة بين الفراشة - مهند السعدي - والنار، تلك الهوية المفقودة. وتظل المطاردة مستمرة، متكررة، دون أن تصل إلى شيء، وهو العنوان الذي تختتم به الرواية فصولها.
ثمة صورة أخرى لعلاقة الفراشة والنار في هذه الرواية، تتمثّل في جدل العلاقة بين الحب والحرب الذي يستمر بطول الرواية. وكلاهما يقعان على كاهل الماضي - مختار بك. إن ما يلفت النظر في الرواية منذ فصلها الأول، أن مختار بك وهو يسعى إلى بناء مجده - صورة أخرى من علاقة الفراشة والنار، سأعود إليها - يقع تحت ضغط الحرب التي تفقده إرهاصاتها الأولى أولاده و زوجه التركية، تلك التي هجرته بعد أن ملّت من هجر الزوج لها، وارتباطه بعلاقات عاطفية متكررة، بطول مدن الإمبراطورية التي يعمل فيها.
لكن مختار بك ينال عقابه القدريّ سريعاً، حين يرتبط - أو قل يُفتن - بالزوجة العربية - الحجازية (ناجية) - التي وهبته صبياً وفتاة - ثم يفقد الأم وابنها في أولى أيام الحرب التي اشتعلت في مدينة الرسول، ويجد نفسه وحيداً، شبه مشرّدٍ، تتعلّق في يده فتاة غضة، يرحل بها من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يحط بها الرحال في الشام، ويترك الفتاة عند إخوانها من الأم التركية، ويواصل مطاردته - أو فراره من تداعيات الحرب، ويواصل معها مطاردة حلمه الضائع، مستعيداً لحظات حبه المفقود.
وهذه المطاردة تُبطن تحت سطورها السعي إلى الأمن وراحة البال، وهو السعي الذي لم يستطع أن ينجح فيه، فظل الأمن وراحة البال النار التي تطاردها الفراشة - مختار بك - وهو يشعر طيلة الوقت بفقدانه الحب الصادق الذي صادفه في حياته، كما فقد رفاق كفاحه وهم يدافعون عن آخر معاقل الإمبراطورية الزائلة.
ثمة نار أخرى مشتعلة بطول الرواية، بطلها أيضاً مختار بك، فالرواية تقدمه باعتباره المهندس العبقريّ الذي جال بطول مدن الإمبراطورية ليبني فيها دعائم الدولة. وهي الدعائم التي كان أبرزها خط حديد الحجاز، والكنز الذي كُلّف بإخفائه في اللحظات الأخيرة لسقوط هذا الخط. ومعه فخري باشا الذي كان حاكماً للحجاز وخاض اللحظات الأخيرة من سقوط الإمبراطورية وتحولها للدولة التركية.
هذا التحوّل أثر على مصير البطلين، بعد أن أيقنا أن مسار الأحداث لا يمضي في صالحهما، فقد نفاهما أتاتورك إلى أفغانستان ضمن عملية التخلّص من رجال الإمبراطورية القديمة، فاخر باشا باعتباره سفيراً للدولة الجديدة، ومختار بك باعتباره مهندساً يساعد في بناء البنية التحتية للقومية الناشئة. وهناك يلتقي الرجلان - الصديقان القديمان - ويستعيدان معاً ذكريات الإمبراطورية.
لقد أيقن الرجلان أن حلم عودة الإمبراطورية لن يعود، وبالتالي فإن مجد الماضي لن يعود، وأن ما سعيا لبنائه طيلة عمرهما لن يتحقق. لقد جاهد فاخر باشا لبناء الإمبراطورية مع خلفائها المتعددين، وجاهد للحفاظ عليها، وكان هذا مصدر فخره ومجده. أما مختار بك فقد جاهد لبناء مجده الشخصي ليكون أحد العظماء الذين تفتخر بهم الإمبراطورية.
غير أن حلم المجد كان سبب سقوطهما. فاخر باشا لأنه انتهى به الأمر منفياً في بلاد بعيدة، ومختار بك لأنه فقد زوجته التركية في لحظة سقوط خط الحجاز نفسه وضياع الكنز. فقد أخبرته زوجته التركية أنها قررت هجره بعد أن تأكدت أنه لا يهتم بها، بقدر ما يهتم بمجده الشخصي، مجد المهندس العبقري، وثم جاء فقد الكنز في اللحظة نفسها ليسقط حلم المجد. ومن ثم، كان المجد هو النار التي سعى إليها الرجلان، وكان الرجلان هما الفراشة التي تسعى لتحقيق ذلك المجد البعيد.
لا نستطيع أن نقرأ الرواية دون أن نلتفت إلى أزمة المثقف، باعتبار الثقافة بمعناها الراقي هي النار التي تجذب المثقف الفراشة. لقد كانت أزمة مهند السعدي منذ البداية أنه مثقف يسعى إلى اكتشاف هويّته في ظل مجتمع يحفل بالمتناقضات، ما بين التديّن الشكلي والسعي إلى إدراك التطور الحضاري المعاصر.
لقد أعطى الطابع العملي لمهند السعدي؛ باعتبارها الشخصية العربية المثقفة في عصرنا الحاضر، طابعاً متناقضاً، تبحث عن حقيقة وجودها بخصائصها التي تعود إلى الثقافة، ككاتب صحافي وروائي، يثير الأسئلة والتحفظ بما يكتبه في طابعه الإشكالي الذي يفكك بنى الفساد في المجتمع، من جانب، وكأكاديمي يهتم ببحث مشكلات المجتمع من وجهة نظر الفلسفة الاجتماعية، مع الحرص على المكانة الاجتماعية، والاستفادة من هذه المكانة ومن تحولات المجتمع نفسه، في تحقيق مكاسب رجال الأعمال المعاصرين.
غير أن وقوع هذه الشخصية بين رحى محاولة الحفاظ على شخصيته كمثقف، ووضعه الاجتماعي كصحافي وأكاديمي، في ظل السعي المحموم للبحث عن الكنز المفقود، هو الذي قاده إلى الفراغ، فلم يستطع أن يعود إلى حياته الطبيعية كمثقف راضٍ بدوره ووظيفته في تفكيك مظاهر الفساد، ولا هو استطاع أن يتحوّل إلى واحد من النخب التي تستغل تهافت المجتمع على الثروة ليكون هو نفسه من أصحاب الثروة.
ومن ثم، تنتهي الراوية وهو ضائع بين المسارين، في هو (اللاشيء) كما يسميها، وفي مطاردة (سيزيفية) - البطل الأسطوري الإغريقي سارق النار - للمعرفة والحقيقة التي لا يدرك سبيلها أو معالمها.
وهنا يظهر المثقف المأزوم، المثقف الذي يملك الوعي ويملك الموهبة، ويعرف الصواب، لكنه لا يستطيع أن يصل إليه، لأن قوة النخب/ النهب السياسية الاقتصادية تمنعه، فلا يكون أمامه إلا الاختيار: إما أن يندرج مع النخب في جماعاتهم السلطوية، ويوظّف قلمه لصالحهم، ولا مانع أن يبيع إنتاج عقله لأحدهم، وبالتالي يفقد هويّته جرّاء هذا الانخراط مع النخب، وإما أن يختار الحفاظ على كلمته، و»فقره» وهويّته.
وأمام هذا المصير البشع لرجل الثقافة، تتحوّل الثقافة نفسها إلى «نار» تلهب فراشتها الحائرة «لمثقف»، حتى تحرقها في أتون معرفتها، كما يتحوّل جدل الهوية إلى نار موازية، تحرق الأخضر واليابس، تحرق فراشة المثقف وفراشة الفقراء في قاع المجتمع. أما النخب فقد أعفت نفسها من هذا الجدل، واختارت أن تكون صورة من صور النار التي تحرق الجميع، مثقفين وفقراء، والعجيب أن تلك النخب رغم ما تفعله - وهي تفعله في العلن - إلّا أنها تظل قبلة للجميع، وكلما انفصمت عُرى العلاقة بينهما وثّقتها المصالح المؤقتة والمنافع اليسيرة، كالكرة المربوطة بخيط المطاط، كلما ركلها اللاعبون ارتدت إليهم، وكلما هربوا منها لاحقتهم، حتى تحترق ويحترق الجميع، فداءً للوعي، وحباً في الثقافة والمثقفين.
** **
- منى العنزي