في الأسبوع الأول من شهر ذي الحجة عام 1443هـ جاءني وأنا في الرياض هاتف من الطائف يدعوني للمشاركة والكتابة في إصدار عن الصديق الأستاذ علي خضران القرني أحد أدباء الطائف وكتابها، سررت بهذه المبادرة، واستدارت بي الأيام، واستدعيت الذكريات والأعوام قبل أكثر من نصف قرن حين التقيت بالأخ الكريم والصديق القديم الأستاذ علي، كنا هو وأنا في مطلع حياتنا الأدبية نستقبل الحياة بتفاؤل وانشراح، توثّقت بيني وبينه الصلة، وازدادت بحمد الله على مر الأيام، كان وقتذاك يعمل في المحكمة الشرعية، ومقرها حينئذ في شارع البريد، ورئيسها الشيخ محمد بن علي البيز أحد القضاة الأفذاذ، وكان الأخ علي يعمل موظفا إداريا بمسمى (كاتب ضبط) ويجيد الطباعة باحتراف على الآلة الكاتبة، كمهارة إضافية، وتلك المهارة في ذلك الزمن مهمة لندرة من يجيدونها، ولها بدل إضافي على الراتب، وأظن أن الأستاذ علي تعلم الضرب على الآلة الكاتبة إبّان عمله في وزارة الدفاع في منتصف السبعينيات الهجرية، في المعهد الثقافي الوطني بالرياض، ونال شهادته بتفوق قبل انتقاله للطائف وعمله بمحكمتها، حيث كان مقر قيادة الجيش السعودي والمدارس العسكرية في الطائف، وقد اتفق الأستاذ علي مع أحد تجار الطائف وهو الشيخ سعيد با فيل العمودي على افتتاح مركز أو معهد للتدريب على الآلة الكاتبة في المساء، وكان مقر المعهد في دكاكين وخان با فيل، في وسط سوق الطائف، وأكثر الملتحقين بذاك المركز هم من جنود الجيش العربي السعودي، والموظفين الإداريين، والمعلمين، لأن الجندي يريد أن يحسن من وضعه الوظيفي بتعلمه الآلة الكاتبة، وكذلك الموظف الإداري والمعلم، وهو ما يشكل فرقًا كبيرًا في الوضع المالي والوظيفي لهذه الفئات، ولم يكن بالطائف من يدرّب ويدرّس الطباعة على هذه الآلة الحديثة آنذاك بمؤسسة مرخصة رسميا إلا الأستاذ علي خضران، وكان بعض طلابه يأتون إليه من خارج مدينة الطائف، والأخ علي من مواليد بلاد بالقرن (محافظة العرضيات حاليا) ودرس في مكة المكرمة المراحل الأولى من التعليم، ثم واصل تعليمه في الرياض، والتحق بعد ذلك بدار التوحيد.
أقول عرفت الصديق علي وازددت به معرفة وازداد هو بي معرفة، وجمعتنا هواية محببة وهي الأدب ومطالعة المجلات الأدبية والمقالات الثقافية، وكنا نراسل كبار أدباء ذلك الزمان أمثال الشيخ عبد القدوس الأنصاري مؤسس مجلة المنهل، والأستاذ الكبير أحمد عبدالغفور عطار مؤسس جريدة عكاظ الذي كنت معجبًا به، ويشاركني الأخ علي أيضا الإعجاب به وبأسلوبه القوي الجاد، كما كنت وإياه من المعجبين بالشيخ أحمد بن إبراهيم الغزاوي، وشعره في الحوليات وفي الأدبيات، ومضى بنا دولاب الحياة، وتدرّج أخي علي في الكتابة وتدرجت مثله فيها، وعمل مراسلًا صحفيًا وكاتبًا بجريدة المدينة ومجلة قريش وجريدة اليمامة، قبل أن تتحول إلى جريدة الرياض، ومجلة الجزيرة قبل أن تتحول إلى جريدة الجزيرة، وجريدة عكاظ وكان ذلك أيام صحافة الأفراد، كذلك جريدة الندوة، كما كان كاتبا بمجلة المنهل، ومعتمدا لها بالطائف، وفي أوائل الثمانينيات الهجرية (الستينيات الميلادية) عُيّن الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام رئيسًا للمحكمة الشرعية الكبرى (كما كانت تسمى)، خلفًا للشيخ محمد بن علي البيز، وكان للشيخ البسام مسكن في حي السليمانية القديم، يعقد به ندوات أدبية؛ والشيخ عبدالله ممن أوتي حظًا عظيمًا من الثقافة الدينية والأدبية والتاريخية والمجتمعية، وهو من بيت آل بسام، الأسرة الكثيرة والكبيرة والشهيرة في الجزيرة والخليج والهند والعراق والشام ومصر، والتي خرج منها علماء وأعلام يشار إليهم بالبنان، واتصلت أسباب الأخ علي خضران بأسباب الشيخ، الذي كان وقتئذ يحضّر ويجمع بعض المواد لكتابه العظيم (علماء نجد خلال ستة قرون) ولم يجد الشيخ حينها من يقوم بإخراج الكتاب في قت قياسي بتنسيقه وطباعته على الآلة واخراجه للدفع به إلى الطبع النهائي، وتعسر الأمر بسبب ضيق الوقت، والكل يطلب وقتًا طويلًا، وأجرًا مبالغًا فيه لإنجاز ذلك، مما حدا بالشيخ لطلب المساعدة من الأخ علي، الذي كان مديرا لمعهد الآلة الكاتبة، والمدرب الأول لها بالطائف، مع ما لديه من خبرات صحفية وإعلامية تؤهله لذلك، فوافق الأستاذ علي خضران على ذلك تطوعا بلا مقابل، خدمة للعلم الشرعي، وحبا ومودة للشيخ البسام رحمه الله، الذي كان يربطه به علاقة أخوة وزمالة قوية.
وذات يوم أبلغني الأخ علي بأنه سيقيم حفل عشاء تكريمًا للشيخ عبدالله، فسررت بذلك، لأنني كنت أتطلع إلى لقاء الشيخ، وفعلا شخصت إلى دارة أخينا علي خضران في حي الريان، وحضرت اللقاء، وسررت أنا والحضور بلقاء الشيخ عبدالله، وحديثه الممتع والماتع في كل فن، تحدث في التاريخ والأدب والفقه والأنساب وغيرها من الفنون والعلوم، توثقت صلتي بالشيخ رحمه الله بعد تلك الجلسة، وصرت أزوره في داره في السليمانية، وأحضر ندوته الأسبوعية عصر يوم الجمعة، وزاد ترددي على مجلسه العامر برفقة زميلي في العمل بديوان رئاسة مجلس الوزراء، الصديق الشيخ محمد بن علي السميح حيا الله ذكره ومد في عمره، وفي كل زيارة ازداد معرفة وازداد إعجابًا بالشيخ البسام وسعة علمه وتبحره في كل المجالات، وكأنه المعني بقول الشاعر:
ليس على الله بمستنكرٍ
أن يجمع العالم في واحد
ومضت السنون، وانطوت تلك الأيام الجميلة والذكريات الحميمة، وانتقل الشيخ عبدالله البسام إلى هيئة التمييز بمكة المكرمة (محكمة الاستئناف حاليًا) ثم أصبح عضوًا في هيئة كبار العلماء، وأصبحت التقيه في صيفيات الطائف المأنوس، حين كانت الحكومة والهيئات القضائية تنتقل إلى الطائف كل صيف.
ثم انتقل الأخ علي إلى إدارة تعليم البنات بالطائف، التابعة للرئاسة العامة لتعليم البنات يوم كانت جهازًا مستقلًا قبل دمجها وتعليم البنين في وزارة التعليم، وتدرج في العمل حتى وصل إلى نائب مدير التعليم، وترك فيها أثرًا طيبًا وذكرًا حسنًا، فهو من ييّسر على الناس، ويسعى لمساعدتهم بالمعروف، ولما أُسِّس نادي الطائف الأدبي في عام 1395هـ الموافق 1975م كان أحد مؤسسيه، وأصبح عضوًا في مجلس إدارته، ثم نائبًا لرئيسه، وصرت أتردد على النادي، أحضر بعض نشاطاته، وأشارك في منتدياته، وألقيت فيه محاضرتين الأولى (المضيفات والممرضات في الشعر المعاصر) والثانية (البرق والبريد والهاتف وصلتها بالحب والأشواق والعواطف) ثم طبعتهما في كتابين، كما صدر للأخ الأديب علي خضران مجموعة من الإصدارات والمؤلفات أيضًا، منها: (صور من المجتمع والحياة، وأبها في مرآة الشعر المعاصر، وقراءات عابرة، وخطرات فكر في رياض الشعر والنثر)، والأخ علي شخصية هادئة، ممن يألف ويؤلف، منّ الله عليه بالمزاج الهادي والتؤدة وعدم التسرع، وساعدَته هذه الخصال ولله الحمد في البقاء صحيحًا سليمًا عندما تقدم به العمر، فهو هادئ الطبع قليل الانفعال، نادر الدخول في مشاحنات أو مناكفات، لذلك لا أعرف له عدوًا في العلن، وكأني به يتمثل قول الشاعر:
وليس كثيرًا ألف خل وصاحب
وإن عدوًا واحدًا لكثير
وهو متصالح مع نفسه ومع الآخرين، حسن النية، صافي الطوية. وبعد تقاعده من عمله الحكومي، تفرغ للأدب والبحث والكتابة، وأصبح حرًا طليقًا، يتنقل بين مسقط رأسه ودياره الأولى بلقرن، والطائف وجدة ومكة المكرمة، وقد أوتي حظًا كبيرًا من محبة الناس، ورُزق أبناء نجباء وأسرة كريمة ولله الحمد.
ومن طباعه الكريمة وسجاياه الحميدة وفائه لأصدقائه، وتفقده لإخوانه وسؤاله عن أحوالهم، ولما أراد أن يؤلف كتابه الشهير (من أدباء الطائف المعاصرين) اتصل بي وطلب مني المشاركة في هذا الكتاب، الذي اعتبره من أحسن الإصدارات التي توثق لهذه المدينة ورجالها قديما وحديثا، وهو سفر كبير جمع فيه وأوعى، فشاركت فيه بمقال أو بحث مطول عنوانه (مراكب الغيد في الشعر الجديد) وهو بحث حول سياقة المرأة للسيارة يوم كانت سياقتها من المحظورات، أوردت في ذلك البحث شواهد مما قيل من الشعر في المرأة الجميلة عندما تسوق السيارة، وضربت فيه الأمثال وشرقت فيه وغربت ومما جاء فيه:
أتسوقين حلوتي سيارة
وتبثين في المرور حرارة
وتزيدين من مشاكل سير
وتقودين في الزحام حصاره
ماذا أقول وماذا أدع وأنا بصدد الحديث عن أحد الأصدقاء الأوفياء أبا خالد الأستاذ علي خضران القرني، الذي ما زلت وإياه نتصل ونتواصل، ونكرر الهوايات ونستعيد الذكريات، حررت هذه الكلمة التي أرجو أن أؤدي بها بعض حق الصديق، وفاءً وصفاءً له، حررتها ونحن على مشارف عيد الأضحى المبارك من العام 1443هـ، وأقول لأخي علي: أهنئك على ما أنت فيه من راحة ووفاء وهناء، وأهنئك أيضا بقدوم العيد، وأهديك هذا البيت للشاعر الكبير الذي تحبه وأحبه الشيخ احمد بن إبراهيم الغزاوي:
العيد أنت وفي رحابك نمرح
وبك الحجاز مناهل والأبطح
** **
- عبدالرحمن بن فيصل المعمر