د.محمد بن عبدالرحمن البشر
المسترزقون بشعرهم كثر عبر التاريخ، وفي كل زمان ومكان منذ العصر الجاهلي في العالم العربي وحتى الوقت الحاضر، وأيضا هو كذلك في دول أخرى، وحضارات مختلفة، ولا ريب في ذلك، فالشعر جميل، ويخلد قصصاً، وروايات، وأسماء أعلام، وغير ذلك، ومن هؤلاء الشعراء عبد الجليل بن وهبوب، شاعر من شعراء الأندلس المرموقين، قدم إلى المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية، وكانت اشبيلية في ذلك الوقت مقصدا للشعراء، والمغنين، والأدباء، وكانت مسرحيًا كبيرًا في تلك الأجواء الجميلة الغنية باللهو، والشعر، والتغني بالطبيعة، والنساء، وكانت أعدادهن كثيرة ومتنوعة من قيان، وسبايا، ومحظيات، من عرب، وبربر، ومولدات، وإسبانيا، وصقالبة من شرق أوروبا، ودنماركيات، وفرنسيات، وغيرهن، ولم يكن في بداية عمره في الصف الأول من الشعراء المتقدمين لدي المعتمد بن عباد ولهذا فلم يكن يعرفه معرفة جيدة، وسمع ببيتين من الشعر، وسأل عنهما، وقيل له هذه لعبد الجليل بن وهبوب، أحد خدم مولانا، والبيتان، هما:
قل الوفاء فما تلقاه في أحد
ولا يمر لمخلوق على بال
وصار عندهم عنقاء مغربة
أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقال
فقال المعتمد هذا والله اللؤم البحت، رجل من خدمنا والمنقطعين إلينا، ويقول: أو مثلما حدثوا عن ألف مثقال، وهل يتحدث أحد بأسوأ من هذه الأحدوثة، وأمر له بألف مثقال، فلما دخل عليه يشكر له، فقال له: يا أبا محمد هل عاد الخبر عياناً، قال أي والله يا مولاي، ودعا له بطول البقاء، ولما هم بالاصراف، قال له: يا عبد الجليل الآن، حدث عنها يعني الألف مثقال.
وكان أبو الحجاج ابن الأعلم معلماً لأبناء المعتمد بن عباد، وهو عالم له تقدير لدى العامة والخاصة، وكان عبد الجليل بن وهبون يعول عليه، ويتقرب إليه، وحدث ذات يوم أن قدم أبو مروان ابن سراج شعراً إلى المعتمد يمدحه فيه، ويعرض بابن الأعلم، لما بينهما من المنافسة، كما هي العادة من منافسة بين القرناء، وكلتا الأسرتين بارزة عبر الأجيال، وقريبة من القصور، لكن أبا الحجاج لم يرد على أبي مروان، ثم أوحى إلى عبد الجليل بن رهبون، أن يقول شعراً يمدح فيه المعتمد، ويعرض بأبي مروان بن سراج، وقد وجد أبو بكر بن عمار، وزير المعتمد وخليله والمتغلب على أمره هوى وميلاً إلى عبد الجليل، فقربه، وأصبح من ضمن جلساء المعتمد، ولم يفارقه إلى غيره من حكام الطوائف، كما أدناه الوزير ابن عمار في مجالسه الخاصة، واغدق عليه المال.
وكما هي حال الدنيا في كل زمان ومكان، تتغير بأسباب مختلفة، وظروف متنوعة، وقد تتقلب من نعيم ورغد عيش إلى حسرة وحزن، وفي كلا الحالتين فإن النعيم أو الحزن لا يدومان ومآلهما إلى الزوال، وهي لا تأتي بعد إنذار أو مسبقا في بعض الأحيان، وإنما تأتي فجأة دون سابق علم، يقول الشاعر:
كُنْ حَلِيمًا إذَا بُلِيتَ بغيظٍ
وصَبُورًا إذَا أَتَتْك مُصِيبَة
فَاللَّيَالِي مِنْ الزَّمَانِ حُبالَى
مُثْقَلاتٍ يَلِدْن كُلَّ عَجِيبَة
حدث بين المعتمد وأبو بكر ابن عمار أمر استوجب أن يقبض عليه المعتمد، ويودعه السجن، رغم أنه خليله في صباه، وفي شبابه، وفي رجولته، فأودع ابن عمار في السجن فترة من الزمن، وكاد المعتمد أن يعفو عنه، لولا تدخلات من المنافسين له، حالت دون ذلك، وذات يوم أخرجه من سجنه وضربه على رأسه حتى توفاه الله، وأمر به أن يكفن، ثم صلى عليه مع من كانوا موجودين في القصر في ذلك الوقت، ومنهم الشاعر عبد الجليل ابن رهبون جليس المعتمد، والمقرب جداً من ابن عمار، فقال عبدالجليل بيتاً من الشعر، من أجمل ما قرأت في وصف المشاعر في بعض المواقف التي تقول فيها مجبراً غير ما تبطن، يقول الشاعر عبدالجليل، واصفاً شعوره نحو ابن عمار:
عجباً له أبكيه ملء مدامعي
وأقول لا شلت يمين القاتل
عراك قوي وصعب داخل نفس الشاعر، وصراع قد يمتد مدة طويلة في قلبه، المليء بالحب لصاحبه وصاحب الفضل عليه بعد الله، وهو الوزير ابن عمار، وفي ذات الوقت لابد له أن يمتدح الذي قتله، لأن القاتل هو المعتمد بن عباد، الحاكم الذي يعمل الشاعر في بلاطه، ولو صمت ولم يشارك الشعار في نفاقهم وشعرهم، فربما يستغل ذلك حساده، ويوحون للمعتمد بن عباد أن ذلك الرجل يقف في جانب ابن عمار، ولم يكن راضياً عن قتله، حقاً موقف مؤلم ومشاعر صعبة جداً، عبر عنها هذا الشاعر ببيت جميل من الشعر، وموقف كهذا ربما مر على الكثير، أو ربما يكون الجميع، والتي يجمع فيها الإنسان بين المتناقضات، فيكون الصراع محتدم داخل النفس، وهذا لا شك له أثر محزن ويبقى مدة طويلة دون أن يزول.