أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لقد تمتعت بحياتي مع سيدي وصاحبي وأستاذي الأمير (نايف بن عبدالعزيز) رحمه الله تعالى وقدّس روحه، ونوّر ضريحَه، وكل من عايشته من العامة يدعون لصاحب السمو الملكي الأمير (نايف)، وكانوا يرون فيه صلابة مواقف جنبتهم بإذن الله، وله الحمد والشكر والمنة شروراً مروعة من خلايا الإرهاب الانتهازية التي بلينا بها، وكانت فريسة متأسلمين غير صادقين؛ بل كانوا منفذين لأهداف العدو، وفريسة حركيين لم يفهموا دين الله حق فهمه؛ ولهذا كان أكثرهم من صغار السن، وكبارهم ذوو هوى سياسي، وذوو حب تلميع، أو ضحايا من أسلفتهم من الحركيين، ومهد لهم خطباء الفتنة الذين تراجع أكثرهم وبقي على النفاق من في قلبه مرضٌ.
قال أبو عبدالرحمن: إن من معايشتي لسموه خمسة وعشرين عاماً وجدته رابطاً مستقبله بمصير أمته ودولته، ولم يكن له همٌّ بمطامع الدنيا؛ بل أهدى بيته في حي الزاهر بمكة المكرمة لمدارس البنات على الرغم من شدة حاجته إليه؛ فكان يسكن بمبنى وزارة الداخلية في المناسبات الرسمية؛ بل أعلم شيئاً خفياً عن الجمهور، وهو تنازله عن أرضٍ شاسعة أيام أزمة الأراضي على الرغم من قلة ذات يده، وأعرف حق المعرفة معاناته المالية في مستشفيات فتحها للناس في الخارج، وشدة حياء ورحمة تدفعه لمساعدة المستحقين ووجوه البر من غير سعة، ومن ذلك ابتعاث الطلبة على حسابه.
قال أبو عبدالرحمن: وما رأيت الأمير (نايف) رحمه الله تعالى في إجازته الأسبوعية وغيرها متمتعاً بها تمتع من يريد الراحة بعد جهدٍ؛ بل كان يلاحقه الهاتف في الساعات الطويلة، وحقائب المعاملات؛ فكان في عملٍ دؤوب، وأسأل الله جلت قدرته أن يجعل ذلك في ميزان أعماله، وأن يكون من الصنف الثالث الأخير الذي ذكره ربنا بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (32) سورة فاطر؛ فكان له من الله ناصراً وكفى بالله وكيلاً، وقد تقلده الهمُّ الكبير آنذاك، فله الأجر الجزيل بحول الله وقوته على تحمله هذا العبء مع أعبائه الكبيرة الأخرى باستحضار النية، فإن العمل لمصالح الأمة إذا استحضرت نية الإخلاص لله سبحانه عبادة.
قال أبو عبدالرحمن: لقد جمع الأمير (نايف) رحمه الله بين الصلابة وشجاعة الموقف مع شدة الرحمة والحلم والصبر والتواضع، وقد ذكرني بسنةٍ كريمة من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه؛ فقد صحّ عنه أنه خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات فما قال له لشيىء فعله: لم فعلت هذا؟.. أو لشيىء لم يفعله: لم لم تفعل هذا، وهكذا رأيت تعامل سموه مع العاملين لديه في بيته وإجازاته فيما يتعلق بتمام خدمته؛ وإنما صلابته فيما يخل بحق الآخرين، أو بحق الرب سبحانه وتعالى كما لاحظت ذلك فيمن كثر تخلفه عن الصلاة.
قال أبو عبدالرحمن: وفي أيام خطباء الفتنة صاح شاب بأعلى صوته أمام الناس: (خف من الله يا نايف في الدعاة - يعني خطباء الفتنة-)؛ فدعاه سموه للركوب معه في السيارة إلى البيت مبتسماً في وجهه، مدخلاً عليه الطمأنينة، ثم حاوره حواراً هادئاً يسأل عن مأخذه على سموه، ومدى وجاهة مأخذه عنده، ثم بيّن له بكل صدق وصراحة وبرهانٍ الأفعال المضرة بالأمة من استغلال حرية التعبير وصرفها إلى التدمير، وأن إيقافهم لحمايتهم من أنفسهم، وأنهم يتمتعون بغاية الإكرام وزيارة الأهل ولم يمسهم أدنى أذى.. وعلى الرغم من أن الشاب كان مراهقاً فقد قبّل جبين سموه، ودعا له، وانصرف راشداً.
قال أبوعبدالرحمن: والله يعاملني بقصدي أن هذا الثناء الواقعي.. ولقد عامل الله نايفاً رحمه الله - فيما يظهر والله أعلم - بحسن مقاصده؛ فكان موفقاً مسدداً في إجراءاته وتصريحاته وقراراته.. وصرف جهده من غير تفريط في أمشاج الثقافات الأخرى إلى نوع علمي عملي هو الفقه الدقيق في شؤون الدولة والشعب، والتأني، والقراءة الدقيقة لما يعرض عليه في الحقائب من المعاملات؛ فكنا يصيبنا الملل إذا كنا في معية سموه، ونقول: (متى يفرغ من قراءة هذه المعاملة وما بعدها معاملات كثيرة؟)، ونخرج أكثر من مرة لإراقة الماء وهو على انحناءته؛ ولهذا كانت بحمده لله إجراءاته مسددة راشدة، وساعد على ذلك بعد توفيق الله تجربته العريضة في أمور الراعي والرعية؛ ورئاسته أو مشاركته في دراسة وإصدار كل ما يتعلق بعموم استراتيجيات الدولة والأمة، مع متابعة لا تكن تعرف الملل لما يبث إعلامياً رؤية أو سماعاً.
قال أبو عبدالرحمن: ولا شك أن مسؤولينا وبلادنا وشعبنا مستهدفون؛ حسداً على الأمن والرخاء، وبغضاً لقيادة إسلامية ذات مركز ديني ومالي؛ وليس في سيرة سموه بحمد الله ما يستحيا منه؛ بل كانت نزاهته ونظافة جيبه معروفة لدى القاصي والداني، فكم كان له من مواقف مشرفة محنكة غير معلنة للجمهور.. ومثل ذلك ما يتعلق بمسؤولينا ابتداءً بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أيده الله، وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان حفظه الله وسدد خطاه.
قال أبو عبدالرحمن: وثمة موقف آخر مع سماحة الشيخ (عبدالعزيز بن باز) رحمه الله، وقد لقي ربه رحمه الله قبل أن يرى الآثار السيئة للإرهاب من إهدار للأرواح وتخريب للأموال، ولولا الله ثم صلابة وحكمة دولتنا ورجل أمنها القوي آنذاك الأمير (نايف) لكان المتوقع ما هو أدهى وأمر؛ فلقد زار سموه سماحته في بيته، وشرح له واقع الحال عن جناية خطباء الفتنة، وما يتوقع من آثارها السيئة، والعدل بل والإحسان في التعامل معهم وحمايتهم من أنفسهم.. ثم ثنى بأن الدولة خادمة للشريعة، وقد حملت مسؤولية البيان الشرعي من استأمنتهم علماً وورعاً، وأنه بعد هذا الواقع يريد تحميلهم مسؤولية البيان الشرعي ببرهانه المنطبق على الواقع يحدد ما للدولة وما عليها؛ فقال سموه: يا سماحة الشيخ إن بيعتنا وبيعة المسلمين للملك (فهد)، وحقك علينا أن نطيعك في بيان الحكم الشرعي ببرهانه بعد فقه في الواقعة؛ فالسيرة العملية لولاة أمر المسلمين في تاريخنا الطويل التناغم بين السياسة والشريعة وعلمائها، والمعادلة بين المصالح والمفاسد، وأيد المشايخ الذين كانوا عند سماحته مصادفةً كلام سموه؛ فعاد سماحته إلى الوعد بالنظر، وامتثال ما يحقق المصلحة الكبرى؛ فودعه سموه بعد أن قبل جبين سماحته.
قال أبو عبدالرحمن: ولست بحاجة إلى استجداء بمثل هذه المواقف التي ذكرتها عن سموه، ولكني أقول ما علمته، والله يحب الصدق، ويحب من جاء به، ويحب من صدق به وأمرنا أن نكون مع الصادقين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (119) سورة التوبة، وأسأل الله في بقية هذا العمر صدق القول والعمل؛ فرحم الله الأمير (نايف) وقدس روحه ونور ضريحه، وجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وأسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال أبو عبدالرحمن: ألقيت هذه القصيدة في منزلي بالرياض مساء الأربعاء 23-7-1422هـ، بمناسبة الحفل الذي أعدته مجلة الدرعية لصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله تعالى، وقلت فيها:
عاندت فيك مثبطاً وعذولا
ومددت من ثني الأعنة طولا
وأجلت في تيه المجاهل حيلتي
فرجعت صفراً ما شفيت غليلا
شكراً أمير الرفق إني شاعر
مذ كنت في شمل الحصيف نزيلا
شحذت خصالك من شباة قريحتي
كالغيث يحيي بالبهيج محولا
واستشرفت منك العيون بنظرةٍ
شوقاً وتخفضها المهابة ميلا
أكرم به يرضي العيون لطافةً
ويظل في قدر الصدور جليلا
لازلت في روع الجناة مروعاً
متمثلاً إن أزمعوا تبديلا
فإذا أرابوا فلّ غرب فجورهم
ما جرّبوا فبدا لهم تزويلا
بالرعب شد الله أزر رسوله
وقضى به لعدوه تنكيلا
أوزارة الأمن العميم تألقي
إن قيل: كنت لنائف تحجيلا
أو لم تكوني المحضَ من تجريبه
والمنهج الموعود جيلاً جيلا؟
ملئت عيون الشعب من طيب الكرى
ونفت على سبح النهار خمولا
هنئت وأنت على العناء وكحلت
أجفانها بسباتها تكحيلا
ليلٌ تعاني فيه راحة نومٍ
وتذود إزماع النعاس حلولا
ما خاب ظن الفهد في إرفاقه
للمسلمين بنائفٍ تأهيلا
يزن الرجال بنظرةٍ فتخالها
بالقطع من توفيقها غربيلا
آهٍ حليم العرب أنت بأمةٍ
أضحى بها حبل الوئام سحيلا
ببصيرة الإيمان والبشرى لمن
عبد الإله وأحسن التعويلا؟
حيتك من درعيتي نخب النهى
ترعى الولاء وتتقن التعليلا
درعيتي ماضٍ نعيش جذوره
بالعلم إن أرخى الظلام سدولا
درعيتي جنات حبرٍ عابدٍ
طابت جنى وتهدلت تهديلا
متعت بالذكر الجميل معتقاً
عبقاً يعطر حفلنا المأهولا
وإلى لقاءٍ قادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.
** **
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -