منال الخميسي
في قاعات الدرس داخل كليات ومعاهد الإعلام المختلفة لابد وأن تدرس فصلا كاملاً عن مفهوم الصورة الصحفية: معناها، مغزاها، دلالاتها وأيضا وظيفتها في إثراء العمل الصحفي والاعلاني كذلك، عرفها لنا أساتذة الإعلام على أنها لغة البصر وما يستهوي العين من انفعالات ناتجة عن منطق العلامة البصرية ومفاهيمها كإطار الصورة واللقطة والخلفية والحجم والإخراج والألوان.
والصورة هي ترجمة لكلمة (Image) بالإنجليزية التي اشتقت من كلمة ” تخيُل (imagination) بسبب ما تحمله من تعبير عن المواقف والأحداث بدقة قد تفوق الواقع في وصفها للحدث بطريقة أبلغُ من اللفظ.
كان علم الإعلام في البداية لا يعتمد بطريقة أو بأخرى على الصورة في تقريب ووصف الأخبار وتوثيقها، فكان جُل العملية الصحفية حينها هي أن يمسك القارئ جريدةً تكتب بها موضوعات ومقالات دون أن يعرف حتى من يكتبها شكلاً.
وكان الاعتماد على أسماء الكُتاب الكِبار في تسويق الصحف عن طريق كتاباتهم لا عن طريق صورهم، أو حتى بصور تقريبية تقوم بإيضاح ما يكتبون عنه.
تَلاَ هذه الحقبة ظهور الإذاعة والتي كانت منفذاً مهماً تُطلق منهُ الأخبار والموضوعات التي يريد أصحابها إيصالها الى العامةِ من الناس.
فكان تميز الصحفي ومقدم البرامج أو الكاتب والفنان، من خلال صوته ومحتوى ما يقدمهُ وكانت تترك فرصة التخيل للمستمع الذي كان بدوره يربط الأحداث التي تمر به وحتى المناسبات بأصوات الإذاعيين والبرامج التي كان يفضلها وينتظرها.
إلى أن ظهر التلفاز كوسيلة إعلامية أكثر تطورا ونقلا وتأثيرا على عقول المتلقين وأكثر جذبا لأنه كان يعتمد بشكلٍ أساسي على عرض الصور الثابتة والمتحركة والمشاهد الحية التي كانت تصور وتعرض قبل ظهور التسجيل، مما جعل ارتباط الجماهير به أكثر ونسبة المصداقية أعلى، ومعرفة كثير من الحقائق كما هي دون التدخل التخيلي للمتلقي كما في الإذاعة، ومن بعده تغيرت اهتمامات المتلقين بالخبر.
فبعد أن كان خبرا جافا غير مكتمل النقل، أصبح الآن واضحاً مكتمل الأركان بالدليل واليقين والتوثيق للحدث أو لصاحب الكلمات أو لناقل الخبر.
من وجهة نظري:- وجود الصور أحدث ما يشبه ثورة في العمل الإعلامي الذي من أهم ركائزه: الإخبار، التثقيف، الترفيه وأن وجود الصور بتلك الوظائف التي تقوم بها مؤسسات كاملة وبدون أدنى جهد في الإخبار، التثقيف والترفيه بمعنى أن الصورة ناقلة للخبر مُثقِفة به، مرفهة وممتعة وإن كانت لا تحتوي على مناظر جمالية فقط.
يكفي أنها تنقل الحدث كما وقع، وهذا في حد ذاته باعث على الارتياح والطمأنينة لصدق الخبر من جانب المتلقي، استخدم فيما بعد عدد من المصورين أساليب غير أخلاقية في أخذ اللقطات التصويرية ومحاولة وضعها في مواضع غير حيادية مما أدى الى تزييف بعض الأخبار وجعلها بلغة الصحافة (مفبركة أو غير دقيقة) لكن سرعان ما يكتشف المتلقون أو الجمهور الصور الزائفة ويستطيعون التفريق الدقيق بينها وبين الحقيقية، وهذا ما يطلق عليه المشتغلون بالعمل الإعلامي (ذكاء المتلقي) الذي لا يمكن أن يصل إلى وجدانه الزيف وخاصة إذا كان على دراية كاملة بظروف وأحوال مجتمعه أو العالم المحيط به.
مع مرور الوقت أصبحت الصورة الصحفية والتلفزيونية شريكاً مهماً وعنصراً لا يمكن الاستغناء عنه في كل المواد الإعلامية والإعلانية أيضا. تذبذب المستوى التقني في نقل الصور بين الجيد والرديء فهناك من كان يستخدم كاميرات عالية الدقة وآخر يلتقط صوراً بكاميرات محدودة الإمكانات كل على حسب مقدرة مؤسسته الصحفية المادية أو مقدرته الشخصية إن كان مراسلا حراً.
إلى أن ظهر عصر الهواتف المتنقلة وما حوت من كاميرات تدرجت في مستوياتها الى أن وصلت في يومنا هذا إلى أعلى حدود التقنية والدقة فأصبح بين يدي كل فرد منا مؤسسة صحفية مستقلة بلا رقيب أو مصحح للأخطاء أو محرر متخصصا مؤسسه تصور وتحرر وتضع التعليق وتكتب التعقيب وتنتقد وتنشر أينما كانت وكيفما شاءت، مؤسسات متنقلة تنقل الأحداث في حينها أي اعتمدت ما أُسميه أنا (بالتوثيق اللحظي) للأحداث بشكل غاية في السرعة والآنية كل ما سبق يمكن أن يستساغ ويُعد تطوراً طبيعيا لتكنولوجيا المعلومات وصناعة الاتصال مما يخدم العملية الإعلامية ومن يتابعها يوثق عن طريقها الإعلاميون ومصادرهم الأحداث والأخبار وإيصالها للمتلقي بكل سهولة وسلاسة.
إلى أن ظهرت تطبيقات التواصل الاجتماعي والتي أدخلت الجانب المادي في هذه العملية وارتبط عرض الصور الثابتة والمتحركة والمقاطع المسجلة والحية بما يسمى(الأعلى مشاهدة) ومن ثم الجزاء المادي وتحقيق الثراء السريع في وقت قصير شرط أن يكون لك متابعون بالملايين وبصرف النظر عما تقدم وتعرض من أحداث وصور وليس شرطاً أن يكون ناقل الصورة شخصا متخصصا أو على الأقل على دراية بالعمل الصحفي الاحترافي وأخلاقيات المهنة الصحفية، وهنا لابد أن نقف عند نقطة غاية في الخطورة و هي:-
أنه عندما يرتبط العائد المادي السهل المتمثل في منح الأموال مقابل المشاهدات العالية بعدم الوعي أو الجهل وانخفاض المستوى الفكري والتعليمي والجهل بتقاليد المجتمعات وبالأعراف والقيم الدينية والمجتمعية فإننا نكون أمام كارثة أخلاقية كبرى.
شخص غير مؤهل ثقافياً ولا دينياً يمسك بأداةٍ ينقل عبرها كل حدثٍ يصلح للمشاهدة أو لا يصلح لا يهم، المهم هو كيف يجني من وراء مشاهداته أموالا طائلة وثروة سهلة لا يفرق بين ما يشوه أعين الأطفال والنساء والعائلات لا يهم أن ينتهك الحرمات ويبرز السيئات.
حتى وإن كان يمسك هاتفه ويشاهد جريمة تحدث وبدلا من أن تحركه نخوته ومتانة أخلاقه في أثناء المجرم عن القيام بها، يقوده دافع حصاد المشاهدات وصورة الأموال للتغافل عما يشاهد وكأنه يقول للقائم بجريمته (أكمل وأنا معك) أصبحت الصورة واللقطة الآنية باستخدامها غير المسؤول إحدى أهم مساوئ العصر بعدما كانت تساعد الصحفي في توثيق الخبر الجاد الذي ينتفع به المجتمع الى عمل يساهم في نقل الجرائم والأحداث المقززة كالعدوى الشرسة ليس لعلاجها وإنما لانتشارها وتوطينها.
دائما ما تدر علينا تقنيات الغرب كل يوم الجديد والجديد مع تسريب العديد من المفاهيم المغلوطة عن الحرية في استخدام وسائل نقل المعلومات والهواتف مع أنهم يقومون بتقنين تلك الوسائل بما يخدم مجتمعاتهم بدوافع ذاتية وفي بعض الأحيان غير حكومية.
أما نحن فدائما نرضى بأن نكون في موضع المطبق عليهم كافة التجارب نأخذ قشور أفعالهم ونعززها بلا وعي ولا انتقاء لما يناسب طبيعة بلادنا وديننا تنتشر الهواتف بكاميرات حديثة غاية الدقة وبأسعار زهيدة وينتشر معها الانحدار الأخلاقي في بعض المجتمعات العربية وانتهاك للحرمات من منا لم يشاهد جنازة أحد المشاهير في الدول الغربية. لا نجد سوى كاميرات النقل لبعض محطات الفضائيات أو بعض المهتمين خلف خطوط خصصت لهذا الأمر. أما في بعض البلدان العربية تجد عشرات الشباب الذين يجهلون كل ما يمس الأعراف والتقاليد والأسس الدينية في احترام أحزان الآخرين وخصوصية مناسباتهم من أجل أن يحملوا هواتفهم التي تشعر وكأنهم يريدون أن يدخلوها داخل أفواه أشخاص أنهكهم الحزن وأعياهم مصابهم من أجل تحقيق مشاهدات أكبر وربح أوفر وبغض النظر عما يحمل المحتوى من فظاعة.
الأمر الأكثر غرابة هو تعود بعض المجتمعات العربية على تلقي مثل هذه الصور بل يحركون وعلى نطاق واسع مؤشرات البحث عن جنازة فلان وفضيحة فلان ومشاهد لقتل هذا ومشادة هذا وذاك.
انهيار أخلاقي بدأ في التنامي بكل ما تحمله الكلمة من معنى يساهم الجميع فيه إما بالتغاضي أو المشاركة، هناك إجراءات وقائية وعلاجية لابد وأن تتخذ من جانب بعض الحكومات العربية لإيقاف هذا النزيف الأخلاقي لبعض شباب وشابات اليوم آباء وأمهات ومربي الغد الذين سيكونون بطريقة أو بأخرى مسؤولين عن توجيه أجيال كاملة في مختلف المجتمعات العربية.
…لابد من تطبيق الجزاءات على كل من ينتهك حرمة الآخر بهدف الربح وتحييد التطبيقات التي يستخدمها العامة وبعض الجهلاء بعادات وأعراف المجتمعات وتعاليم الدين، وأن هناك فرقا بين أن تكون حراً مسؤولاً وبين أن تكون حراً متطفلاً تجرم في حق غيرك.
هناك أطفال يتربون اليوم على مشاهدة الجرائم والسرقات وانتهاك الحرمات في غياب دور الأسرة في الرقابة وتعتبر التعرض لمثل هذه الصور شيئا عادياً و اعتبار حدوث الجرائم والمشادات وتصويرها على أنها أشياء تحدث ولابد من نقلها أمر غاية في الخطورة على كل المجتمعات.
لاحظنا جميعا في الأسابيع الماضية انتشار عدوى جرائم القتل بطرق متشابهة في أكثر من بلد عربي وكأنها دعوى للتقليد ووضع ما يشبه قانون الغاب الذي للأسف قام بها شباب متشاركون في نفس الأعمار وفتيات أيضا ضحايا متشابهات بنفس السن تقريباً ويتعدى النقل والتصوير إلى تعليق ما أسميهم»رواد الإعلام الجدد» المؤثرين الحاليين الذين يناقشون تلك الجرائم ويصفونها بل ويتخذون من الجناة أبطالاً أو وضعهم موضع الضحايا الى جانب سرد الأسرار الأسرية والفضائح التي لا تفيد الآخرين في شيء سوى تزايد عدد المشاهدات لهؤلاء أيضا، ومن ثم أرباح أكثر.
أحداث دخيلة على مجتمعاتنا وعلى عالمنا العربي الذي لم يعرف أبدا الجمود غير المسبوق في المشاعر وتجاهل الأثر النفسي على المشاهد خاصة وإن كان صغيرا في العمر مازال يكون خبرات ومفاهيم للحياة وأصحاب الأحداث أو الواقع عليهم الضرر أن تكتب على الصور تحذيراً بأنه (يجب ألا يشاهدها الا من كان عمره يتعدى الثمانية عشرة) أو أكثر لا يعتبر ذلك رادعاً أود أن أسأل سؤالاً:
ما الذي سيفيد مجتمعك لو عرضت صورة سيئة أو انتهكت حرمة لمتوفين أو مريض أو عرضت موقفا سيئاً لفتاة في عمر أخواتك أو بناتك؟ أنت تخدع نفسك وضميرك ودينك ومن ثم مجتمعك وتعتبر آثماً عندما تؤصل لتداول صور لشيء ستره الله وجعل له حرمة لابد وأن تعود الصورة الصحفية خادمةً أمينةً للعملية الصحفية، وأن يجرم تداول المقاطع التي تنقل الجرائم وسلبيات المجتمع ومن يريد أن يتشدق بأنه ينشرها للعظة ومحاولة الإصلاح فيذهب بها إلى من يقومون بواجباتهم القانونية الرسمية وجهات التحقيق والأجهزة الأمنية المنوطة بتحقيق العدالة لا لتراها زوجتك وابنتك وكامل عائلتك عندئذٍ.
يعود مفهوم الصورة ونقلها كمكمل للعملية الإعلامية الممنهجة والمدروسة من قبل ممارسيها من صحفيين وكتاب ومؤسسات إعلامية التي من أهم أسسها: المحافظة على أخلاقيات مجتمعاتنا عبر أهم خصائصها الإخبار والتثقيف والترفيه لا نقلا للزيف، وتشويه المجتمعات وهدم قيمها وأصولها.