تلقيت يوم الجمعة 2 - 12 - 1443هـ الموافق 1 - 7 - 2022م بعد صلاة الجمعة، وعبر رسائل تويتر ووسائل التواصل الاجتماعي خبراً محزناً لا يسر الصديق، ولا من كان له الكتاب رفيق، خبر وفاة علامة زمانه، الشيخ محمد بن ناصر العبودي، الذي كان له الكتاب خير جليس، والسفر خير ونيس، رحال العلم والأدب، حامل الكتاب والقلم، الذى طاف البلاد طولاً وعرضًا، ونشر الدعوة الإسلامية شمالا وشرقا، وجنوبا وغربا، رحل علامة البلاد، وابن بريدة ذو الفكر والرأي، صاحب الهمة، والقلب الجبار، الذي ولد عام 1345هـ وترعرع بمدينة بريدة، عاصمة القصيم، وتوفي يوم الجمعة 2 - 12 - 1443هـ ودفن يوم السبت بمدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، بتاريخ 3 - 12 - 1443هـ بعد صلاة العصر، بعد أن عاش بالحياة الدنيا أكثر من خمسة وتسعين عاما، قضاها بالترحال، والذهاب، والإياب، والاطلاع على كتب السير، والإعلام وتأليف الكتب، والمراجع التي يسهر معها حتى الصباح، والعمل الحكومي الجاد، المستمر بالليل مع النهار.
والشيخ محمد بن ناصر بن عبد الرحمن بن عبد الكريم بن عبد الله بن محمد العبودي عليه رحمة الله من الجيل الأول الذين جمعوا بين التعليم النظامي، والتعليم التقليدي، فقد تعلم على يد المطاوعة مطاوعة بريدة، وهم من عرفوا بالكتاتيب، ومنهم المطوع صالح بن محمد الصقعبي، الذي قال عنه أحد تلاميذه الشيخ إبراهيم بن عبدالمحسن العبيد (كان مؤدباً للصبيان ومعلماً للقرآن والكتابة وهو مؤدبنا ومدرسنا في الحساب، إنه يكتب للأولاد حروف الهجاء في ألواح من الخشب.
ومن علماء ومشايخ بريدة الذين تلقى العلم عليهم فضيلة الشيخ عمر بن سليم، الذى أرسله الملك عبدالعزيز مع فريق من المشايخ والعلماء لمناصحة الاخوان، الذين تمردوا على طاعة الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن، ومنهم الشيخ صالح السكيتي إمام وخطيب جامع الأمير عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي والمدرس بمعهد بريدة العلمي، وهم من فرغوا أنفسهم للعبادة وتعليم الأولاد بالمجان القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، والعلوم الشرعية والقراءة والكتابة، استجابة لقول الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» ورغم أنه رحمه الله يدين لهم بالفضل، ويعتز بهم، ويعلمهم، إلا أن شيخه المفضل، الذى فضله على تلك الكواكبُ، ولازمه حتى وفاته، وفى أشد الظروف، والأوقات، يجالسه، ويمازحه، ويقضي معه الكثير من الأوقات، هو العالم الفاضل الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد، الذى قدم من الرياض إلى بريدة عام 1362 هـ، بأمر من جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن ليتولى القضاء بمدينة بريدة، ويؤم الناس بالجامع الكبير (جامع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز) وظل ملازما للشيخ في حله وترحاله.
لقد اهتم الملك عبدالعزيز عليه رحمة الله بالعلم والتعليم النظامي، وجعله ركنا من الأركان الأساسية، التي تقوم عليها الدولة (المملكة العربية السعودية) التي وحدها بجهوده وجهود رجاله المخلصين عليهم رحمة الله.
ومن اهتمامه بالعلم والتعليم ضم مدارس المطاوعة والكتاتيب، التي كانت قائمة في ذلك الوقت ببريدة مع القائمين عليها للتعليم (النظامي) الحكومي، وأمر لهم بصرف المرتبات والمكافآت، كمدرسة المطوع محمد بن صالح الوهيبي، الذي عين مدرسا بالمدرسة المنصورية، التي افتتحت عام 1368هـ بعد ضم طلاب مدرسته إليها.
وكذلك مدرسة المطوع عبدالعزيز الفرج الذى رشح معلما بالمدرسة العزيزية، بعد ضم طلابه إليها عند افتتاحها عام 1369هـ وبأمر من الملك عبدالعزيز تم فتح الكثير من المدارس الابتدائية، بمناطق المملكة ومنها المدرسة المنصورية، ثاني مدرسة تفتح بمدينة بريدة، بعد المدرسة الفيصلية التي فتحت عام 1356هـ، كأول مدرسة حكومية سعودية تفتح بالبلاد، وكان أول مدير لها الشيخ عبدالله البراهيم السليم، الذي كلفه الملك عبدالعزيز بافتتاح أول مدرسة حكومية بالرياض، عام 1367هـ ثم عاد إلى بريدة 1373هـ مديراً لمعهد المعلمين، حتى تقاعد عام 1391هـ عليه رحمة الله.
لقد بدأ الشيخ محمد الناصر العبودي حياته العملية مديرا للمدرسة المنصورية ببريدة، حين وجه الملك عبدالعزيز مديرية المعارف بافتتاحها في ذلك العام 1368هـ.
وظل الشيخ محمد الناصر العبودي مديرا للمدرسة المنصورية ثاني مدرسة تفتتح ببريدة، والواقعة جنوب شرق مسجد الجردة (مسجد حسين العرفج)، وبالمبنى المستأجر من قبل السادة أسرة الرقيبة حتى عام 1373 ففي هذا العام، افتتح أول معهد علمي بمدينة بريدة، وتم اختيار الشيخ محمد العبودي، الذي التحق بسلك التعليم 1364هـ ليكون مديرا لذلك المعهد، أول معهد علمي يفتح بمنطقة القصيم.
ظل الشيخ محمد الناصر العبودي مديرا لمعهد بريدة العلمي، حتى عام 1384هـ
ونظرًا للعلاقة الوثيقة بالشيخ عبدالله بن محمد بن حميد الذي عين بموجب أمر ملكي مشرفا على الحرم المكي، صدر عن الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله.
رحل الشيخ محمد الناصر العبودي مع الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد إلى مكة المكرمة، عام 1384هـ وكان واحدا من الذين اختارهم الشيخ لمرافقته،
رحب الشيخ محمد عليه رحمة الله بطلب الشيخ عبدالله، وسافر معه هو وعائلته، وسكنوا بجوار المسجد الحرام بمكة المكرمة.
وظل ملازما لا يفارق الشيخ عبدالله، الذى اتخذ منه رفيقا يثق فيه، ورجل علم يعتمد عليه، بتوثيق المسائل الفقهية، والدروس العلمية، التي يلقيها بالمسجد الحرام.
عمل الشيخ محمد الناصر من شبابه، حتى شيخوخته، بوظائف الدولة، بدأها مديرا للمدرسة المنصورية الابتدائية ببريدة، حين صدر قرار تعيينه من مديرية المعارف بتوجيه من الملك عبدالعزيز، ثم مديرا لمعهد بريدة العلمي، وعمل بالجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة، أمينا، ثم وكيلا، وأخيرا مديرا لها، ثم رشح لمنصب الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي، والتي مكنته من تحقيق هوايته كرحالة، لزيارة أكثر دول العالم.
والعبودي أسر متعددة وكثيرة، تسكن بمنطقة القصيم وخارجها، وقد لا يعرف بعضهم بعضا، ولا يمتون إليهم بصلة، ولا بينهم علاقة نسب ولا حسب،
وأسرة العبودي التي ينتسب إليها الشيخ محمد الناصر العبودي، حسب إفادته ترجع إلى أسرة السالم، التي سكنت بريدة، أواخر القرن التاسع الهجري، وملكوا الأراضي، وبنوا المساكن، واسسوا المزارع، جنوب غرب بريدة، وانقسموا إلى عوائل، منهم السالم، والغصن، والهلالي، والنصار، والعضيب، والذيب، والعبودي، التي ينتسب إليها الشيخ محمد، لا يزال يسكن أكثرهم ببريدة.
لقد أسهمت هذه الأسر، كغيرهم من أسر بريدة في تطوير مدينتهم بريدة، عمرانيًا، وزراعيًا، وتجاريًا، ولعبوا دورا كبيراً في الدفاع عنها أوقات تعرضها للفتن والحروب.
وكانت لهم مشاركات كغيرهم أثناء توحيد المملكة، والوقوف مع الملك عبدالعزيز في حروبه ضد الخصوم، وعندما استقرت الاحوال وتوحدت البلاد، تحت راية لا إله الا الله محمد رسول الله، بفضل الله، ثم بفضل الملك عبدالعزيز، ورجاله، كانت لهم مساهمات في المجالات التجارية، والاجتماعية، والثقافية، ومنهم الشيخ محمد الناصر العبودي، الذي ألف أكثر من مائتي كتاب، وتقلب بوظائف الدولة، بدأها مديرا للمدرسة المنصورية ببريدة، واختتمها بمنصب الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي.
وفي كل الحالات ينطبق عليه قوله تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
حصل أبوناصر على حوافز نقدية وتقديرية وأوسمة وجوائز محلية وعالمية، تقديرًا لجهوده العلمية والأدبية، وكانت آخر جائزة حصل عليها الشيخ محمد قبيل وفاته هي شخصية العام الثقافية، وهي الجائزة العالمية التي تكرم بها وزارة الثقافة رواد الثقافة.
تزوج الشيخ محمد الناصر العبودي من ابنة خاله عبد الله الموسى العضيب، وخلفا ذرية صالحة ثلاثة أبناءً، وست بنات، الجميع مؤهلون علميا وأدبيا منهم من يحمل الدكتوراه، ومنهم من يحمل الماجستير.
لقد خلف رحمه الله علماء وعلماً وإرثاً ستستفيد منه الأجيال القادمة كمًا أفاد الأجيال المعاصرة ولنا أن نردد بتصرف قول الشاعر:
ولدت بهذه الدُنيا فَعِشت مُمجَّداً
وَغِبتَ عن الدُنيا وَما زلت حاضرا
وعزاؤنا لأبنائه وبناته خاصة ونسأل الله أن يجعلهم خير خلف لخير سلف وللأمة العربية والإسلامية عامة.
ونسأل الله أن يتقبل الفقيد بقبول حسناُ وبواسع رحمته، وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وإن يظله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، وأن يسكنه الفردوس الأعلى وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان و{إنا لله وإنا إليه راجعون}.
** **
- علي محمد إبراهيم الربدي