عبدالوهاب الفايز
كما قلنا الأسبوع الماضي، لكل مجتمع القيم التي يعتز بها، ولا يمكن للعالم أن يعيش على منظومة قيم موحدة مفصلة للعالم أجمع؛ فعالمنا ليس ملكًا خاصًا لشعب أو أمة محددة، بل الأرض للبشر جميعًا ليسعوا في مناكبها ويعمروها.
قمة جدة التي افتتحت أعمالها بالآية الكريمة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، أكدت أهمية منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية التي تجمع الشعوب ولا تفرقها. وهذا ما خاطب به سمو ولي العهد الجانب الأمريكي بقوله إن الدفاع عن قيم معينة والسعي لفرضها بالقوة إنما هو سبيل يأخذ الدول إلى القلاقل والنزاعات.
فالنخبة الليبرالية المتطرفة في أمريكا تتجاهل خطورة فرض القيم الغربية في نسختها الأمريكية، ولا يهمها سوى إدارة القوة وتحقيق المصالح عبر هذا المسار، فهو الأمضى والأسرع في إحداث القلاقل وإضعاف مواقف الدول وهز جبهتها الداخلية. ولديهم حالة نجحوا في مقدماتها ولم يحققوا أهدافهم الكبرى، هي: إطلاق الربيع العربي. لهذا الهدف جندوا الأعوان، وقدموا الملايين من الدولارات لجمعيات مدنية ولأفراد يُسمون أنفسهم (نشطاء حقوقيين)، لكي يباشروا الثورة على بلادهم، والحكومات التي أوقفت بعضهم بالجرائم المشهودة والموثّقة، الآن تقاتل جمعيات مدنية غربية لأجل إطلاق سراحهم، وتصفهم بسجناء الديمقراطية والحرية!
الحركة الليبرالية الغربية المتطرفة التي نرى ثمارها الآن هذه تم زرع بذورها داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وهذا المشروع يأخذ أشكالاً قديمة وجديدة. أول المشاريع الثقافية بعيدة المدى للاستلاب الثقافي والفكري بدأ في القرن الماضي عبر المدارس والجامعات الدولية التي استهدفت إنشاء طبقة مؤمنة بالغرب روحيًا وماديًا. الآن يستمر المشروع عبر توسيع قاعدة (المدارس الدولية)، وهذه أفضل وسيلة لنشر مفهوم المواطنة العالمية. هذه المدارس ستكون: (حصان طروادة الثقافي!) لكونها تدرس مناهج غربية خالصة وباللغة الإنجليزية. وبعض الآباء والأمهات في العالم العربي الذين ألحقوا أبناءهم بهذه المدارس يتألمون الآن لحالة الانعزال الثقافي الذي يرونه في الأبناء، فقد تحولت قلوبهم للحضارة الغربية فأخذتهم إلى حالة الإعجاب والتماهي الأقرب للانسلاخ الحضاري.
وهذا ما يستدعي الاحتراس من خطورة المدارس الدولية، حيث إنه قد يعرض جيلاً كاملاً لمناهج غربية تسهل الاندماج مع قيم الحضارة الغربية المعاصرة. التربويون يرون أن اختلاف المنهج يؤسس لـ(تضارب الهوية)، ويقدم الأرضية الخصبة لبروز مقومات الثقافة الغربية بقيمها المركزية ومنها الليبرالية الجديدة. فالطالب الذي يدرس ويتعلم (قيم الفردانية) وتقديس حق الفرد الثقافي والسياسي سوف تتوسع تطلعاته السياسية، وتتساهل نظرته للقيم المركزية في المجتمعات الأبوية التي تعظم دور الأسرة والكيانات الاجتماعية الكبرى الحاضنة.
أثار الاستلاب الثقافي الذي بدأ منذ سنوات بعيدة، نكاد نرى ثماره الآن، بعض المعلقين الملتزمين بالقيم الليبرالية الغربية، الذين يُوصفون تجاوزًا بالكُتاب أو بالمثقفين في الإعلام العربي. هؤلاء ينتفضون على من ينتقد القيم أو مظاهر الحياة الغربية بدءًا بحقوق الإنسان والديمقراطية، ولا يرون غضاضة في السماح بالحريات المطلقة. وهجومهم على من يخالفهم يعكس سوء النية واضطراب المنهج، فرغم أنهم يؤمنون بالحريات، ومنها طبعًا حرية التعبير والرأي، إلا أنهم ينكرون ذلك لمن يخالفهم!
أيضًا ثمة سبيل آخر يتجدد لزرع بذور الليبرالية الغربية في المجتمعات العربية، وهو تربية النشء على (قيم المواطنة العالمية). وهذه في تعريفها البسيط تعني أن يخرج الفرد بولائه من الأوضاع المألوفة لديه والقائمة على العرق أو الدين أو المجتمع أو الأمة، إلى الجنس البشري كله. مفهوم المواطنة العالمية تطور مع طفرة الاتصالات العالمية التي أوجدت (القرية الكونية)، وتطور مع التوجه إلى العولمة والانفتاح الكوني الذي دفع بهذا المفهوم لأهداف مثل: الرغبة في تقاسم الثراء في العالم عبر التعاون التجاري والاقتصادي بين الدول، والرغبة لمواجهة التحديات الإنسانية المشتركة كمخاطر التغير المناخي والأمراض والأوبئة.
والخطورة الأكبر أن منظمة الأمم المتحدة تبنته بخبث شديد ضمن أهداف التنمية المستدامة لفرضه استنادًا للتشريع الدولي. هذا المفهوم سيكون أداة للصراع الدولي بالذات مع بروز حالات مثل: الصراع على قيادة العالم بين الدول الكبرى، وإشكالات اتساع الهوة بين الثراء والفقر في العالم، وبروز القوميات السياسية المتطرفة، وتطور الدعوة للانعزالية في الشأن العالمي، وبروز حركات عابرة للقارات والثقافات مثل حركة حقوق الشواذ.. وغيرها مما يستهدف التأثير على الوظائف الأساسية للأسرة، والآن تستخدم منظمات الأمم المتحدة الدولية تطبيقات المواطنة العالمية لفرض أجندات خاصة تتصادم مع المبادئ والسيادة السياسية والثقافية للدول. كل هذه الأمور تدفعنا للشك والريبة في أهداف الدعوات إلى نشر المواطنة العالمية.
مجتمعاتنا العربية يجب عليها الحذر والحيطة، فلا ينفع استدامة حسن النية في الظروف الإقليمية والدولية. لقد أدى حسن النية في الدول الكبرى وفي منظمات الأمم المتحدة إلى دمار الدول العربية سابقًا، حيث تم التحالف بين المشروعين الإيراني الفارسي والصهيوني لاحتلال العراق وسوريا ولبنان واليمن، ورأينا منظمات الأمم المتحدة الداعمة والممكنة لهذا المشروع المستمر.
والدول الكبرى، بخاصة أمريكا، مع تراجعها الاقتصادي وصعوبة التدخل العسكري سوف تمزج (أدوات الحرب الثقافية والفكرية) مع آليات الحروب الاقتصادية. هذا يتطلب مراجعة وضع المؤسسات التي يسهل اختراقها لأجل التعبئة الثقافية والاجتماعية مثل وسائل الإعلام والمدارس الدولية. وكذلك الحذر من المفاهيم الأممية المعاصرة مثل المواطنة العالمية. لقد تأذينا من خطاب جماعات الإسلام السياسي حول الأممية الإسلامية التي اجتذبت المراهقين عبر طرقها المختلفة وكانت المدارس والمعسكرات وسيلتها. أيضًا التطرف في الخطاب الشيعي بناه الخميني في جيل كامل عبر مدارس قم والحوزات العلمية حتى تكون (الطائفية الشيعية) العقيدة الجديدة والوطن الأم الأساسي.
لا يمكن أخذ عالمنا اليوم بحسن النية. لقد دفعنا ثمنًا كبيرًا لهذه النزعة الإنسانية والأخلاقية النبيلة، ولكن السياسة وإدارة المصالح للشعوب لا ينفعها إلا مقارعة السياسة بالسياسة! فهل نتحمل أن نتيح الفرصة لمن يزرعون البذور الغريبة في ثقافة أبنائنا؟! والحمد لله أن أجهزتنا واعية وحذرة مثل قرار هيئة الإعلام المرئي والمسموع مع المحتوى الضار في (يوتيوب)، ونأمل أن لا تغفل جميع الأجهزة الحكومية عن المخاطر المهددة لأمننا الوطني.
ملخص القول: علينا الحذر حتى لا يأتي اليوم الذي نقول فيه: «الذيب في القليب (البئر)»!