سوف أتحدث عن مقومات السعادة الأساسية بحسب معرفتي المتواضعة؛ فهذا الأمر ليس بحثًا فلسفيًا يحدد كل المقاييس المطلوبة للسعادة الحقيقية، بل هو مجرد مجموعات وملاحظات مستمدة من واقع الحياة، فبعضنا يغفل بقصد أو دون قصد تدبرها واستخلاص الدروس والمواعظ والعبر.. فحياة الإنسان العصرية بما تحتويه من مشاكل عديدة وتعقيدات متصلة جعلت تحقيق الشعور بالسعادة أمرًا صعب المنال في أغلب الأحيان.
فوسائل النقل وتعددها تبدو للناظر إليها من مكان مرتفع كأنها مستعمرة للنمل في موسم العمل.
وعندما تقود مركبتك مهما كان نوعها للوصول إلى مدينة أو قرية أخرى تفصلها عن مدينتك مسافات كبيرة فإن ذلك يتطلب منك الحذر واليقظة المستمرة.. مما ينهك أعصابك ويجعلها مشدودة كالوتر.
وقد يشعر المرء مع الأسف بأنه لم يولد في زمن جده.. إذ كان الجمل والحمار والبغل والخيل من الوسائل الرئيسة للنقل في ذلك الزمن الجميل.
لا خوف من الاصطدام ولا خوف من الانزلاق ولا خوف من الانحراف عن المسير.. ثم الاستقرار في بطن وادٍ.
وتزيد قناعة المرء بأن السعادة قد ولت إلى غير رجعة عندما تأوي إلى فراشك بعد يوم حافل بالكد والعمل والعناء.. وعندما تشعر بأن (سلطان) النوم بدأ يستحوذ على كيانك، وبعد هذا وذاك فالكثير منا ينخدع بالثقافة الشكلية التي تبدو في بعض الأحيان براقة، فإنها تترك في نفس من يراها انطباعًا بأن صاحبها يرفل في أثواب السعادة بينما قد يكون الأمر على النقيض من ذلك لوجود بعض المشاكل والمنغصات والعقبات، فالله سبحانه وتعالى خلق البشر بدرجات متفاوتة من المال والمنصب والجمال والقوة والصحة وغير ذلك من الصفات.. وذلك لحكمة بالغة منه فهي فوق مستوى إدراكنا البشري المحدود، ولمعرفة مسبقة منه -جلت عظمته- وذلك بطبائع نفوسنا، وقوة غرائزنا، ونضج تفكيرنا، ونقاط الضعف والقوة فينا.. وهذه الأمور يفهمها ويؤمن بحكمتها الإنسان المتزن الذي أوتي عقلاً راجحًا وبصيرة مستنيرة أكثر من غيره من سائر البشر.
ولهذا يجدر بنا ألا نأسف بشيء لا نملكه، أو نسخط بسبب شيء آخر نتصف به.. لأن من وراء ذلك تكمن الحكمة الإلهية.
فإن الشعور بالسعادة أمر نسبي، تتوقف درجته على ما جُبل عليه كل امرئ منا من صفات وسجايا تعتبر من صميم تكوينه الجسدي والعقلي. ويجب ألا ننسى الدور الكبير الذي يلعبه الإيمان في هذا المجال، فهو نعمة كبرى لا تعادلها أية نعمة أخرى في الوجود. ضمن صفات المرء المؤمن أنه لا يفترض أن حياته في هذه الدنيا ستكون حلقات متصلة مع بعضها من سعادة وبهجة وسرور واستقرار... علمًا بأن هذه الحياة كالحية، لين مسها وقاتل سمها، وإنها سوف تنقضي بجميع أفراحها وأتراحها ومنغصاتها وبواعث الألم والشقاء فيها.
وبهذا الطبع لا تجعل منه إنسانًا متبلدًا لا يتألم للمصيبة عندما تحل به، وأنه لا يطمح لتحقيق حياة كلها رغد وسعادة وسرور.. فالإيمان لا يجرد الإنسان من أحاسيسه البشرية الطبيعية.. بل يزيدها رفاهية وشفافية، ويجعلها أكثر عمقًا وشمولاً وأكثر اتزانًا وعاطفة وتفكيرًا، وعلى ذلك يزن أمور حياته بميزان العقل والحكمة، وهنا تبرز فائدة التأمل والتفكر، وهي مرتبة عالية من مراتب الإيمان.
فالإنسان الذي درب نفسه على التأمل والتفكر في موجودات الكون وحقائق الحياة يستطيع بعد ذلك أن يحلق بروحه إلى آفاق كلها روعة وإشراق. فإن مطالبه المادية لا تقف عند حد معين.. فإن طريقة التأمل تحقق للمرء اتصالاً أوثق بالذات الإلهية، فيها نظرة أشمل لحقيقة الوجود وغاية الحياة.. وهذا كله يؤدي آخر الأمر إلى شعور أعمق بتفاهة الحياة وعدم استحقاقها لأنه يوليها من اهتمامه وشعوره وتقديره قدرًا أكبر مما تستحقه بالفعل.
فإن للسعادة أشكالاً عديدة ومظاهر متعددة، ولا يمكن أن تحدد صفاتها وشروطها ومقوماتها بالطريقة التي تحدد بها مواصفات وشروط الأبنية الحديثة.. فعلى سبيل المثال ليس من الشروط الأساسية أن يكون المرء ينعم بالسعادة عندما يكون من أصحاب الملايين أو من أصحاب المناصب العالية يكون سعيدًا وربما يكون المرء يتمتع بصحة جيدة، ومع ذلك لا يشعر بالسعادة التي يحلم بها.
فإن حياة المرء حافلة بشتى أنواع الهموم والأحزان والمشاكل والمنغصات.. وكل هذه الأمور سابقة الذكر تسبب له الحزن والألم، وتجلب له الهم بدرجات مختلفة، فليس من طبيعة أحداث الحياة أن تسير وفق ما يشتهيه على الدوام أو في الأوقات التي يرغب فيها.. بل هي خليط من أمور مفرحة تارة وأمور محزنة تارة، فلا شك أن هناك مقومات أساسية إذا توافرت استطاع أن يحقق قسطًا من السعادة. ومن هذه المقومات ما يأتي:-
القناعة، والقيام بالواجب، وحب الآخرين، والإحساس بقيمة الذات، وأهمية الدور الذي تؤديه مهما كان في ظاهره بسيطًا أو ثانويًا.
والله الموفق والمعين.