د. أحمد محمد الألمعي
هناك صنفٌ من الناس يعتقد أنه يحسن الحديث في كل شيء، فلا يردع نفسه من الكلام في أي موضوع يتم طرحه، فهو العالم والمفكر والباحث وأذكى مخلوق على وجه البسيطة. تسأله في الموسيقى فيجيبك كما لو كان بيتهوفن، وفي الرياضة فيرد بثقة تتجاوز ثقة الأمين العام للاتحاد الدولي لكرة القدم الفيفا، وفي الاقتصاد فتحسب أنك أمام محافظ البنك المركزي، وفي الطبيخ فتخاله أشهر شيف في العالم، وفي الكمبيوتر فلا تظن أن أمامك غير بيل غيتس، وفي السياسة فتجزم بأنك تستمع إلى جوتيريز الأمين العام للأمم المتحدة. كما أنه هو العالم بكل ما يتعلق بأخبار فلان وعلان من الناس، وإذا ذكرت له أنك اشتريت سيارة مثلاً، كان رده «ضحكوا عليك» وأنه اشترى السيارة نفسها بنص السعر وأن سيارته أكبر وأفضل من سيارتك، كما أن لديه العلم والخبرة في مجالات لا حصر لها ويملك معلومات خفيت على الجميع في ذلك المجال أو أي مجال يتم ذكره في سياق الحديث. وقد يعلو صوته ويحتد ويغضب بشدة إذا عارضته، ولا يهم كون من يناقشه أحد الخبراء أو العلماء في ذلك المجال، ويستمر في الجدل من دون خجل وسط دهشة كل من هو حاضر. وقد يكون ذلك الجدل أحيانًا من خلال وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي فيقرؤه الملايين، ولكن ذلك لا يهم فهو مصمم ولن يتراجع مهما حصل، بل ويدعي أنه الخبير ويتباهى بعلمه على الرغم من كونه «يفتي» في مجال يعرف الجميع بأنه خارج نطاق علمه، أو ربما يكون شخصًا قليل التعليم.
فعلى سبيل المثال، هناك من نصب نفسه عالمًا في تخصص الطب النفسي، وجادلني بكل ثقة عن أسباب الأمراض النفسية والتي استحي أن أجادل فيها بعض الأحيان لأني اعتبر أن علمي قليل (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً» على الرغم من مؤهلاتي وخبرتي في المجال التي تجاوزت الثلاثين عامًا كطبيب باحث واستشاري، بل وتمادى واقترح العلاج بكل أريحية، وشمل ذلك تعريفه للأمراض وتناسى ما قدمه العلم من أبحاث على مدى عشرات السنين، فذلك لا يعني له الكثير فهو العالم بكل الأبحاث ومجالات الطب وفروعها وخلفياتها، وللمعلومية فهذا الشخص ليس طبيبًا وليس له علاقة بعلم النفس. وإذا كنت تعتقد بأني أتحدث عن أطفال لم يتجاوزوا العشر سنوات من العمر فأنت مخطئ، فأنا أتكلم عن أشخاص كبار ومظهرهم يوحي بالعقل والفطنة والاتزان ولكن تتبدل هذه الصورة سريعًا بمجرد أن يبدؤوا في الحديث. في الأثر ذُكر أن الإمام مالك سُئل عن 48 مسألة وأجاب في 32 مسألة منها «بلا أدري»، وجاءه رجل بأربعين مسألة فما أجابه منها إلا بخمس، وكان يقول جُنّة العالم قوله «لا أدري»، فإذا أضاعها أُصيبت مقاتله. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية، و»لا أدري». روي عن الخليل بن أحمد وكان من حكماء زمانه «الناس أربعة، رجل يدري ويدري أنه يدري فذاك عالم فخذوا عنه، ورجل يدري وهو لا يدري أنه يدري فذاك ناس فذكروه، ورجل لا يدري وهو يدري أنه لا يدري، فذلك طالب علم فعلموه، ورجل لا يدري وهو لا يدري أنه لا يدري فذلك أحمق فأرفضوه» (ابن الجوزي: أخبار الحمقى والمغفلين).
من الناحية النفسية هناك عدة تفسيرات لسلوك أمثال هؤلاء الأشخاص، كثير منها يتعلق بطفولة الشخص وأسلوب تربيته الخاطئ وجعله يحس بأنه ليس له قيمة كطفل، أو أن يتم إسكاته والسخرية منه في المجالس وإحراجه أمام الموجودين عوضًا عن تشجيعه، فيتكون عنده مركب نقص. ونتيجة لهذا الأسلوب في التربية، يحس هذا الشخص باستمرار بالحاجة إلى إظهار علم ليس لديه أو قدرات لا يملكها. وهناك من نشأ في بيئة فقيرة أو في كنف أب بخيل فهو محروم من الكثير مما يتمتع به أقرانه، فيلجأ للتباهي بثروة لا يملكها والاستعراض بهدف تعويض مركب النقص. وكثيرًا ما يفتقر هؤلاء الأشخاص إلى الذكاء الاجتماعي فلا يدركون أن ما يقولونه مبالغ فيه، فهم لا يمتلكون الخبرة الكافية لما يدعونه، ونلاحظ أن من حولهم ببساطة غير مهتمين بما يقولونه وبلغ بهم الملل حدًا كبيرًا، وعلى الرغم من ذلك يسترسل الشخص في الحديث الطفولي ويتجاهل الإيماءات والتعليقات غير المباشرة التي يهدف بها الآخرون إلى تجنب جعل المتحدث يحس بالتجريح والإهانة. وهناك الشخصية النرجسية التي تصبو دائمًا للمديح والإطراء ممن حولهم، فهم يرون أنفسهم الأفضل والأكثر علمًا والأحق بما لا يستحقونه، وقد يعمدون إلى تهميش الآخرين لإرضاء الشخصية المريضة التي تسكن في أعماقهم. ويشكل الرجال النسبة العظمى ممن يعانون بسبب هذه الشخصية، وهناك أيضًا الشخصية الهيستيرية والاستعراضية السطحية في جميع تصرفاتها والتي تفتقد إلى الإدراك والوعي الاجتماعي، ونلاحظها في الإناث بشكل أكبر.
هناك بعض النصائح للتعامل مع أمثال هؤلاء الأشخاص ممن يدعي العلم والمعرفة، أولها تجنب معارضتهم والجدل معهم أو محاولة توضيح خطأهم فهذا يزيدهم إصرارًا ويحسون بجرح نفسي وإهانة غير مبررة وقد تكون ردة فعلهم قوية ويتطور الجدال إلى تبادل الإهانات والشجار، وعوضًا عن ذلك ؛ قم باستخدام أسلوب التعامل الذكي فهو أكثر فعالية، فقم بشكر الشخص على النصيحة لإنهاء الحديث. تقديم الشكر لمدّعي المعرفة سببًا في أن يتوقف عن طرح المزيد من المعلومات حول موضوع النقاش دون إشعاره بالإحراج، والشكر هنا لا يعني صحة وتقدير ما يُقدم من معرفة على العكس تمامًا؛ فالهدف منه شكره على وقته والتخلّص من حالة الانزعاج الناشئة نتيجة الاستماع إليه. أو هناك أسلوب آخر يتمثل في الاستماع إليه لمدة دقيقتين أو ثلاث متواصلة لإعطائه فرصة للكلام ثم الرد عليه بقول «كلامك هذ ممتاز ولكن أقترح كذا أو أن فلانًا من الحاضرين يقول كذا فيشارك شخصًا آخر في النقاش بأسلوب يجنبه الشعور بالإهانة، كما يمكن طرح أفكار وآراء بديلة واستخدام استراتيجية إبعاد مدعي المعرفة عن التمركز حول الذات من خلال طرح طرق للتفكير تختلف عما لديه، كما يمكن أن تجعل من نفسك قدوة لمدعي المعرفة بإظهار شخصيتك بطريقة صحيحة أثناء التعامل مع الشخص مدعي المعرفة كالاعتراف بعدم امتلاك المعلومات جميعها حول موضوع النقاش مع الشعور بالثقة بالنفس على الرغم من ذلك والقدرة على التفاعل في النقاش، كل ذلك يكون سببًا في أن يشعر مدعي المعرفة بالرضا عندما يعترف بأنّه لا يعلم أو لا يعرف. هذه بعض الإستراتيجيات التي قد تكون مفيدة وهناك غيرها ولكن الهدوء في التعامل وتجنب العصبية والجدل العقيم من أهم الأساليب في مثل هذه الحالات. وفي النهاية هناك شريحة من الناس الذين قد يكون أفضل طريقة للتعامل معهم هو تجنبهم، لأن الاستماع لهم يسبب الألم والانزعاج ويبث فيمن حولهم طاقة سلبية، قال صلى الله عليه وسلم «إن أحبكم إليّ أحاسنكم أخلاقًا، الموطؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون».