صبار عابر العنزي
هل يتغير الإنسان ليواكب الناس، أم يبقى على حاله؟! سؤال كثيراً ما طرحناه في مجالسنا، وحاولنا الإجابة عنه في صالوناتنا الأدبية، فمن قائلٍ إنّ على المرء ألا يواكب، ويبقى قابضاً على مبدئه..!
ومن قائلٍ: إذا بقينا على حالنا فربما تجاوزنا الناس، وساروا يحققون أمانيهم وجملة المكتسبات، ونحن نقف في الطريق ذاته..!
والحقيقة أنّ ذلك كان يولّد لدي قناعاتٍ بضرورة المناقشة الجادّة قبل المباشرة بإصدار التعميمات الجائرة في المواكبة أو الحفاظ على المبدأ، وبعض أصدقائنا الإعلاميين يسميها إشكالية الأصالة والمعاصرة، وما أرجوه في هذه القضية هو خدمة موضوع الجاذبية, فهل تتأثر جاذبية الشخص بموقفه من ثوابته؟ وهل يصبح في عيون الناس مقبولاً، بل جذاباً، إن سايرهم؟ وهل عليه أن يضحي بذلك فيقف في طريقه الذي اختطه من قبل؟!
بل هل يمكن أن يكون صاحب المبدأ جذّاباً، أيضاً، في عيون الناس لاختلاف، عزيزي القارئ، إنّ لدى الإنسان -أيّ إنسان- قيماً وعاداتٍ وخصالاً، ويحكمه عرف عام، يسير من خلاله، وينطلق منه, فإن جاوز أحدنا هذا نظر الناس إليه نظرةً يداخلها الانتقاد.
ولكن هل الانتقاد مبرر وموضوعي أصلاً، خصوصاً حين يكون التغيير مطلوباً وضرورياً وفيه تسهيل على الناس، ولا شكّ أننا يجب ألا ننكر ما اعتاده الناس، فنحترم تراثهم ومكتسباتهم، ونسعى لإقناعهم بضرورة الفهم الصحيح للسلوك، وأنّ أي سلوك هو للتيسير عليهم، حتى أن الشرع الإسلامي جاء ليحفظ الناس ولكن لا ليضيق عليهم الخناق فيقضي على طموحاتهم المشروعة وتحابهم.
إنّ المبادئ التي هي جزء من كينونة الإنسان العربي، ستلاقي انتقاداً إن حاولنا «التفلت» منها، وهذه النتيجة التي أحاول الوصول إليها، ذلك أنّ الغالبية العظمى من البشر تحترم في الإنسان ثوابته ومبادئه حتى لو لم تكن هذه المبادئ تخصهم، وهذا الاحترام يؤدي إلى أن يكون صاحب المبادئ مهاباً عندهم، وقد يؤدي ذلك إلى أن يكون جذاباً لديهم، نظراً لثباته على موقفه.
ولكن مع ذلك هنالك من ينظر للموضوع نظرةً أخرى، فصاحب المبدأ إنسان منطوٍ مغلق لا يخالط الناس، بل لا يساير أو يتخفف من غلواء ثوابته، فينفضون من حوله، وقد يشيعون حوله التهم والأقاويل فكيف نكون نحن، بين الطريقين, وكيف نكون جذّابين بين هذين الحدين؟!
الجواب بسيط وواضح: كن معتدلاً، وحاول إقناع غيرك بالحجة والطريقة التي لا تحزنهم، وحتى لو كنت على صواب وكانوا مخطئين في نقاشاتهم أو طروحاتهم الفكرية، فإن الإكراه أصلاً ليس مرغوباً، بل إن رب العالمين قال في كتابه الكريم: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وقال عز من قائل: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
وكل ذلك يدل على أنّ صاحب المبدأ إنسان يمكن أن يكون مريحاً معتدلاً مقبولاً عند غيره، يكبر في أعينهم، فلا يتأففون منه، ولا يفرون من وجهه، ومن يدري فربما اقتنعوا بعد نقاشهم معه، وربما توصل الطرفان إلى الطريقة التي ترضيهما.
في رأيي أنّ التخلي عن المبدأ قد يعجب الناس قليلاً، ولكنهم سينظرون إلى من يتخلى عن مبادئه إنساناً لا أمان له، فيتجنبونه في المستقبل، وقد لا يثقون بما يطرحه فيما بعد حتى لو كان صادقاً.. وهنا تنتفي جاذبية هذا الشخص، وقد يقول قائل: إنّ مسايرة الناس أمر ضروري تدخل في باب المجاملات التي فيها «تمشية الحال»، وأقول: نعم ساير الناس، ولكن لا تضحي بقيمة أو مبدأ، ولا تكن كذاباً منافقاً ليرضى الآخرون، فأنت لم تؤمر أن تشن عليهم حرباً لأنهم يخالفونك الرأي، فلا أقل من أن تحفظ قيمتك المعنوية لديهم، ولدى الآخرين الذين سيصفونك بأبشع الصفات، فتكون ممن لم يدرك رضا هؤلاء ولا هؤلاء، وهو أمر صعب.