عبدالرحمن الحبيب
في السنوات العشرين الماضية تضاعف عدد الحروب الأهلية رغم أن العنف انخفض على مستوى العالم، فنحن نعيش في أعظم حقبة للحروب الأهلية في التاريخ.. معظمنا لا يعرف أن الحروب الأهلية ازدادت، وأنها ظاهرة جديدة، فباستثناء عدد قليل من الحالات (الحرب الأهلية الأمريكية والإنجليزية، والثورة الفرنسية) قبل القرن العشرين كان من النادر تاريخيًا أن يتنظم الناس ويقاتلوا حكوماتهم. هذا ما تقوله البروفيسورة باربارا والتر أستاذة العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا في كتابها الذي صدر مؤخراً: كيف تبدأ الحروب الأهلية: وكيف توقفها (How Civil Wars Start: And How to Stop Them).
تذكر المؤلفة أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية اندلع أكثر من 250 صراعًا مسلحًا حول العالم، والرقم يتصاعد وستستمر لفترة أطول مما كانت عليه في الماضي سواء في حروب أهلية كبرى مثل العراق وسوريا وليبيا أو فرعية صغرى مثل أوكرانيا وسريلانكا والهند. حتى البلدان التي اعتقدنا أنها لن تشهد حربًا أهلية أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية والسويد وأيرلندا، تظهر عليها علامات الاضطرابات حسب المؤلفة التي تحذر من بدايات أعراض الحرب الأهلية، محددة أسباب نشأتها، وعوامل انتشارها، ولماذا تنجرف بعض البلدان إلى صراع بينما تظل دول أخرى مستقرة؛ وتبحث في العديد من الدول لتحدد عوامل الخطر...
تطلق المؤلفة ناقوس الخطر بشأن احتمال اندلاع حرب أهلية ثانية في الولايات المتحدة: مزق العنف السياسي عدة بلدات في جنوب غرب تكساس؛ ميليشيا يمينية متطرفة تخطط لاختطاف حاكمة ميتشغان ومحاكمتها بتهمة الخيانة؛ حشد مسلح من مؤيدي ترامب ومنظري المؤامرة يقتحمون مبنى الكابيتول الأمريكي.. هل هذه حوادث متفرقة؟ أم إن هذه بداية لشيء أكبر؟ البروفيسورة باربارا قلقة بشكل متزايد رغم أنه لو حدثت حرب أهلية فلن تبدو اليوم مثل دمار ما حصل بأمريكا في ستينيات القرن التاسع عشر أو روسيا في عشرينيات القرن الماضي أو إسبانيا في الثلاثينيات. ستبدأ بأفعال متفرقة من العنف والإرهاب، تؤججها وسائل التواصل الاجتماعي. تقول باربارا: سوف يتسلل إلينا ويتركنا نتساءل كيف يمكن أن نكون عميانًا لهذه الدرجة!
ترى باربارا أن وسائل التواصل الاجتماعي هي العامل الأكبر الذي يُسرِّع من اندلاع الحروب الأهلية الأخيرة.. أما التطور الحاسم في طريق الحرب الأهلية فهو ظهور الفصائل. وإذا كانت الحروب الأهلية أوائل القرن العشرين قامت على أسس طبقية وأيديولوجية (الثورة الروسية والثورة الصينية)، فإنه بعد الحرب العالمية الثانية، مع انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، عكست الحروب الأهلية بشكل متزايد الانقسام العرقي والديني، وبحلول أواخر القرن العشرين كانت الانقسامات العرقية والدينية تكمن في قلب معظم الحروب الأهلية.
أشهر مثال تطرحه المؤلفة كدراسة حالة هو تفكك يوغوسلافيا، حيث انقسم البلد بشكل مرعب على أسس عرقية ودينية بعد أن كان موحدًا من قبل القبضة الحديدية للرئيس اليوغسلافي تيتو. في ذلك الصراع أظهر الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش نموذجًا أصليًا لمفهوم جديد آخر استخدمته المؤلفة، «المُبادر العرقي» أو رائد الأعمال العرقي (ethnic entrepreneur)، حيث قلب سياسة تيتو رأسًا على عقب، متعمدًا إشعال النيران العرقية والدينية.
أكثر الفصائل التي تميل إلى العنف هم «أبناء الأرض» أي الأشخاص الذين لهم تاريخ عميق في بلد ريفي تقليديًا، يستاؤون من نزوح المهاجرين والنخب الحضرية، عندما يتم إذكاء استيائهم من قبل المبادرين العرقيين، حسب المؤلفة التي تقول: «وسائل التواصل الاجتماعي هي حلم كل مبادر عرقي»، وترى أن دونالد ترامب هو «أكبر مبادر عرقي»، وأن الوضع قبل ذلك منذ التسعينات بدأ بانزلاق أمريكا في مستنقع الاستقطاب مع ظهور شبكات القنوات التلفزيونية الحزبية المتناحرة، وتفاقمت مع فيسبوك وتويتر والحوارية الصدامية..
تذكر المؤلفة أنه من المدهش أن الأنظمة المطلقة والديمقراطيات السليمة محصنة إلى حد كبير من الحرب الأهلية، أما البلدان الواقعة في الوسط «أنوقراطية» فهي الأكثر عرضة للخطر فأغلب الحروب الأهلية تقع فيها.. وهذا هو المكان الذي تقع فيه الولايات المتحدة. تطرح المؤلفة المفهوم الأساسي لـ»الأنوقراطية»، وهي مرحلة وسطى أو انتقالية في الحكم بين الحكم المطلق والديمقراطية، حيث يمتلك الأول سلطات كافية للسيطرة على المتمردين المحتملين، وتسمح الديمقراطيات للمعارضين بوسائل إحداث التغيير دون اللجوء إلى العنف، أما فيما بينهما فيمكن أن يحدث الخلل.
إذا أردنا العودة من حافة الانهيار في أمريكا فتذكر المؤلفة أن ذلك سيحتاج إلى: تحسين أداء الحكومة، دعم التجربة الأمريكية (إصلاح قوانين الحملات الانتخابية، إلغاء الهيئة الانتخابية..)، دعم المواطنين الأكثر ضعفًا، كبح التطرف وخطابات الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي وتنظيمها مثلما تنظم جميع أنواع الصناعات لتعزيز الصالح العام والتماسك الاجتماعي.. إلخ.
الحروب الأهلية هي أكبر خطر يهدد السلام العالمي اليوم حسب الكتاب رغم أنها أخف وطأة من الحروب الأهلية السابقة إلا أنها أطول مدة.. كما تظهر الأبحاث التي أجرتها المؤلفة وزملاؤها أن السياسة أهم من الاقتصاد في بدايات اندلاع الحروب الأهلية أو منعها، وأن أهم أسبابها هي تنامي حالة الانقسام العرقي و/أو الديني مع زيادة حالة استقطاب المواطنين وحالة الاستياء بينهم.