د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
ذكر رحمه الله أن أول رحلة خارجية كانت له لدولة البحرين في حدود عام 1370هـ أو 1371 وهي أول مرة ركب فيها طيارة.
وذكر عن علاقته بالشيخ فهد العبيد العبدالمحسن رحمه الله, وأنه كان معتنياً بالمخطوطات والكتب.
وذكر الشيخ محمد الحركان رحمه الله فقال: رجل بكل ما تحمله الكلمة من معنى..
ولا أخبر أنه ذهب عنه ريال في غير حقه.
وذكر أنه في عام 1367 كان قدوم الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله إلى بريدة, وأن شيخنا السكيتي قال لي وأنا أقرأ عليه: نبي نروح نسلم عليه على الشيخ ابن باز؛ لأنه لتوه وصل بريدة.
فقاما للسلام على سماحته رحمه الله وتركا قراءتهما, فتأمل توقير أهل العلم بعضهم لبعض.
وذكر رحمه الله أن أول ما كتب للنشر كان مقالاً بمجلة المنهل عام 1373هـ عن موضوع «الكتابة» لا عن «السفر».
وسمعته غير مرة يقول: أنا أوصي بكتابة كل شيء, فالكتابة لا تضر أبداً, وقد يأتي من يستفيد منها.
أقول: هذه وصية نافعة من الشيخ رحمه الله لكن من يقدر على ذلك! فلطالما فات شيء كثير جداً بسبب عدم الكتابة, وما زال التفريط حتى هذه اللحظة, وكما قيل: قلم رصاص أفضل من ذاكرة شاب.
بل كان رحمه الله يقول: اكتب يومياتك يوماً كل مساء اكتب ما لاقيته لو رأس قلم, وإن كان ليس له قيمة؛ لأنه سيجرك إلى ما فيه قيمة.
كان يقول رحمه الله: نفعني بعد توفيق الله وإعانته ثلاثة أمور في حفظ المواقع والأسماء في البلدان التي زرتها:
1- النظر والتأمل وعدم الإعراض بل التركيز.
2- التقييد.
3- وضعها في كتاب للتأليف ليس مجرد تقييد.
قَلِيْلُ التَّشَكِّي للمُصِيْبَاتِ ذَاكِرٌ
مِنَ اليَوْمِ أعْقَابَ الأحَادِيْثِ فِي غَدِ
قال رحمه الله: مكثت في المدينة النبوية ثلاثة عشر عاماً, وكان يحفظ من أخبارها خاصة ما يتعلق بالجامعة الإسلامية فربما حفظ كل شيء يتعلق ببداياتها والسنوات الأولى فيها, وقد كانت له يد في التعاقد مع أهل العلم, فذهب إلى الشام والأردن وبيروت وغيرها لجلب المتميز للجامعة الإسلامية فأتى بالشيخ الألباني للجامعة وغيره من أهل العلم كما حدثني بذلك, قال: زرت دمشق عام 1375هـ, وزرت الألباني في غرفته في المكتبة الظاهرية, وذكر لي أنه في عام 1383 سافر للحج بسيارة الشيخ الألباني وبرفقتهما الشيخان عبدالمحسن العباد وعمر فلاتة وكان سيارة صغيرة سوداء, فقلت: هل كان الألباني يسرع في القيادة على ما ذُكِر؟ فابتسم رحمه الله وهزَّ رأسه نعم, وحدثني بها كذلك الشيخ عبدالمحسن العباد حفظه الله.
وذكر الشيخ محمد أن الطنطاوي رحمه الله في اجتماع مجلس الجامعة قال: عندنا بهجة العراق وبهجة الشام؛ لما اجتمع بهجة البيطار وبهجة الأثري.
قال الشيخ محمد رحمه الله: إن محمد بهجت الأثري رحمه الله قال له: تعبتُ على تحقيق كتاب «خريدة القصر وجريدة العصر» للأصبهاني أكثر من عمل المؤلف عشرين مرة!
وذكر زيارة الملك فيصل رحمه الله للجامعة الإسلامية, وأنه دخل درس الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله وجلس مدة يستمع للدرس مع الطلبة ثم خرج وسمعته يقول: لولا شغل عندي كانت نفسي لا تطيب بترك هذا الدرس.
قال الشيخ محمد: ذهبتُ مرة مع سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله لزيارة الملك فيصل رحمه الله لما أردتُ الذهاب إلى إفريقيا, ففي المجلس طلبتُ وصية من الملك في سفري هذا, فقال: هي واحدة! راقب الله بأعمالك وأفعالك تنجح.
وما أعظمها من وصية! فرحم الله الملك فيصل, ورحم الله الشيخين المحمدين.
قَلِيْلُ اخْتِلاجِ الرَّأي فِي الجِدِّ وَالهَوَى
جَمِيْعُ الفُؤَادِ عِنْدَ وَقْعِ العَظَايِمِ
وعلى ذكر الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله, ذكر الشيخ محمد العبودي رحمه الله أنه كلَّم سماحته في موضوع فقال له: (النظام يا محمد وضع ليطبق).
وحدثنا الشيخ محمد رحمه الله في مجلسه أنه أَدخل طالباً بلغ عمره سبع عشرة سنة للمعهد العلمي ببريدة, وكان كفيفاً, ولم تكن أوراقه مكتملة, يقول الشيخ محمد: فلم ينس الطالب ذلك الموقف, فكان يدعو لي دائماً, إذ كانت تمر عليه الليالي هو ووالدته لا يجدون ما يأكلونه, وبعد مكافأة المعهد عيَّنا خيراً.
وذكر أنه لما كان مديراً للمعهد العلمي أحد المدرسين من دولة عربية قال لطالب: أين الكراس؟ فقال: في البيت, قال المدرس: اذهب وتعال به, فخرج الطالب بعد الاستئذان من المدير فأذن له قائلاً: طيِّب ما دام الأستاذ يريده, فذهب الطالب وأتى بكراث!!
وذكر أحد الطلاب المكفوفين في المعهد آنذاك وهو الشيخ صالح الغيث رحمه الله وقت إدارة الشيخ محمد رحمه الله فيقول: لا أنس حين كنا ننتظر النتيجة، فخرج علينا مدير المعهد الشيخ محمد العبودي، فوقف بجانبي وقال: المجد للمكفوفين، فعرفت أنني الأول.
ومما ذكره الشيخ محمد رحمه الله عرضاً أنه كان يسلِّف الطلاب من ماله ويخصم من مكافآتهم.
تخَالف النَّاس إِلَّا فِي محبته
كَأَنَّمَا بَينهم فِي حبه رحم
وحدثني سماحة شيخنا صالح الفوزان حفظه الله وبارك في عمره أن الشيخ علي الحصين رحمه الله قد درَّسه في مرحلة الابتدائية ثم بعد التخرج الشيخ صالح منها تم تعيينه مدرساً في المدرسة الابتدائية بالشماسية, فقابلني أستاذي علي ببريدة إذ كان لي حاجة هناك, فأخذ بيدي فذهب بي إلى المعهد العلمي وسلمني إلى مدير المعهد الشيخ محمد العبودي فأخذني الشيخ محمد وأدخلني قاعة الدراسة, وكان المدرِّس في الصف هو الشيخ العلامة عبدالرزاق عفيفي رحمهم الله جميعاً وكان المقرر في التفسير, وكان يشرح سورة التكوير, فبقيتُ في الدرس, وعزمتُ على إكمال الدراسة مع أني حينها قد رُفِّعْتُ في الوظيفة, وأكمل أوراقي الشيخ محمد جزاه والشيخ الحصين خير الجزاء.
صَعب الكريهة لا يرام جنابه
ماضي الْعَزِيمَة كالحسام المقصل
فانظر إلى توفيق الله لهم جميعاً وسماحة نفوسهم من استجابة الشيخ صالح وطواعيته للشيخين وانظر إلى نصح الشيخ علي الحصين والاستجابة المباشرة من صديقه مدير المعهد الشيخ محمد في القبول وإكمال الأوراق فغفر الله لهم جميعاً, ثم التوفيق في كون أول درس للشيخ صالح حفظه الله بين يدي الشيخ عبدالرزاق عفيفي رحمه الله الذي فاق غيره في حسن تدريسه, وجودة عرضه للمعلومة, ولعل هذا من أسباب عزيمة الشيخ صالح في استكمال الدراسة وطلب العلم.
والشيخ علي الحصين كان من تلاميذ الشيخ ابن حميد توفي ولم يتجاوز الثالثة الثلاثين سنة, وكان الشيخ محمد العبودي يعده أصدق صديق له على الإطلاق, كما ذكر ذلك في معجم أسر بريدة رحمهم الله جميعاً.
جاء ذكر الأمثال في مجلسه رحمه الله فقال: عندي كتاب الأمثال البغدادية التي تجري بين العامة للقاضي أبي الحسن الطالقاني مخطوط, ثم قال: كان اهتمامي بالأمثال من زمن قديم, ولي مجلدات فيه, وهو من أوائل كتبي المنشورة.
وأول مثل سمعه من الملك عبدالعزيز رحمه الله: العافية في أطراف الجوع.
وأول مثل سمعته من الملك سعود رحمه الله: ما للصلايب إلا أهلها.
كان رحمه الله مضرب مثل في الاهتمام باللغة العربية حتى سمعته يقول: لقد كلمتُ بعض المسؤولين الكبار ممن يستجاب لأمرهم أن يكون عندنا مجمع للغة العربية فنحن أصل اللغة, وكانت اللغة العربية من اهتماماته الكبيرة بل عند أدنى مناسبة ينبه على اللحن أو اللغط اللغوي ويرشد إلى فصيحه فمرة مرَّ ذكر لفظ «جو» فقال: جمعها «جِواء» لا كما يلحن بعضهم فيقول: أجواء, ومنه «عيون الجواء».
وكان يلفت النظر إلى اللفظ فمثلاً جاء الحديث على ركوب السيارات والطائرات, فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم: « وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا» فهذه معجزة فإن التي يترك منها ما كان للركوب فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقل تترك الإبل. ثم قال الشيخ: عندي معجم عن الإبل في مجلدات.
مع أن المشهور في معنى الحديث في أنه لَا يُسْعَى عَلَيْهَا, أي لا تطلب الزكاة من صاحب الإبل في ذلك الوقت لكثرة المال ورغبة الناس عن السعي في جلب زكاتها, وما ذكره معاليه رحمه الله محل تأمل وبحث, ولم يتيسر لي اقتناء كتابه «معجم الإبل» فلربما بسط الشيخ القول في ذلك.
ذكر أن سليمان الرواف رحمه الله كتب نبذة تاريخية مفيدة خاصة عن خروج آل أبا الخيل من سجن ابن رشيد في حائل يقول الشيخ: فيها مواقف سمعت أكثرها من مشايخي الإخباريين من أهل بريدة.
سألته رحمه الله عن رأيه في المكتبات الخاصة هل توقف بعد الوفاة أو تهدى للجامعات أو ماذا؟ فكان من جوابه: سلاحنا ضد الجهل هو المكتبة, لكن إذا كان يريد استمرارها وبقاءها فليوصي بها, ويحاول أنه ينفق شيئاً عليها مثل الأولين, فقد ذكر ياقوت الحموي في مرو خزانة كتب فلم يكن يسمونها مكتبة وهذا صحيح, لأن المكتبة هي مكان بيع الكتب أما أنها ليست للبيع فهي خزانة تخزن فيها الكتب, يقول ياقوت: إن فيها خزانة السيدة فلانة, وكان فيها خدمات حتى كان فيها من يغسل ثياب الذين يراجعون الخزانة, وأكثر ما استفدته في كتابي هذا يعني «معجم البلدان» هو من مكاتب مرو, أربع خزائن كتب مخدومة عليها أوقاف... أما أن تهدى إلى الجامعات فعلى حسب المكتبة قد تكون زيادة نسخة في المكتبة, أما إذا كان يوجد في المكتبة الخاصة نوادر لا توجد في غيرها كما في مكتبتي ففيها بعض الكتب لا أظنها توجد في غيرها لذا عزمت أن أجعل الكتب أن تصير وحدها وسأجعل عمارة صغيرة ببريدة وقفاً على المكتبة وأضع في مبنى المكتبة «شقة» تكون لقيِّم المكتبة؛ لأني أنا اسم وظيفتي لما عينني الشيخ ابن حميد رحمه الله قيِّم مكتبة جامع بريدة, فنحيي هذا المصطلح القديم, وتصير المكتبة جاهزة, لكن بقي شيء آخر, هل هناك رواد؟ إذا كان فيها كتب ليست في المكتبات الأخرى فسيكون لها رواد, أما إذا لم يكن فيها فهذه مشكلة!
وقال: الذهاب لطلب العلم في الهند؛ لأجل هناك مدراس وقفية, فيأتي الطالب ويجد مكاناً وطعاماً وعلم حديث, فهذا يميز الهند تلك الفترة.
جاء ذكر علم الفرائض فقال: أفرض العلماء هم من يقسمون المناسخات, هذا هو الفرضي.
كان عجيباً في حفظ الشعر العربي والعامي تأتي الأبيات على لسانه كأنه هو ناظمها, ولا يتكلف استحضارها, وأذكر مرة ذكر أحد الحاضرين فائدة فعلق الشيخ قائلاً الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله له أبيات في نحو ذلك ثم سرد بيتين أو ثلاثة!
ومن كلمات الشيخ رحمه الله: أن الشاعر يضيق بما لا يضيق به غيره.
وجاء مرة ذكر الشاعر محمد العوني فقال: إن والده عبدالله قال له: يا ولدي الشعر ما ينفعك خذ مهنة أبوك (كان أبوه أستاد بناء) فإني ابني البيت بعشرين يوماً! فأجابه ابنه: لكن أنا يا أبوي أبني عشرين بيتاً بيوم!
كان حديثه عن النخلة ونتاجها حديثاً شيقاً كعادته إذا تحدث عن شيء, وقد قال كلمة عظيمة فيها, إذ قال: ما فيه شجرة يعيش عليها الإنسان عامه كله إلا النخلة, ثم أعقب على ذلك بقول: خذها ممن دار العالم كله!
وقال: إن عيسى عليه السلام ولد في «أريحا» مأخوذة من «ريحا» وقد رأيتها قديماً مليئة بالنخل.
ثم تكلم الشيخ عن اختلاف ثمرة النخلة وتنوعه ثم ابتسم وقال: أذكر رجلاً أحمق مرَّ بشجرة الجح «البطيخ» ثم مرَّ بنخلة, فقال: لو كان ثمرة النخلة هي للجح, وثمرة الحج هي للنخلة مراعاة للحجم إذ البطيخ شجرتها صغيرة, قال الشيخ: فسقطت على رأس الرجل بسرة من عذق النخلة فدارت عينه, فقال: الله حكيم عليم لو كانت البطيخة هي التي سقطت على رأسي لكنت ميتاً.
ذكر رحمه الله أنه أصيب بالحصباء وعمره تسع سنين أو عشر سنين تقريبا مع أخيه سليمان وهو أصغر من الشيخ بأربع سنين تقريباً, وعالجهم صديق والدهم من عائلة الشبرمي.
لما ذكر وقائع من تأريخ نجد, المرَّة في واقعها والمرة على سامعها قال: تلك أمة قد خلت, نذكرها للاعتبار لئلا تتكرر, فنحمد الله على ما نحن فيه من نعمة.
وسمعته يقول: حدثني أبي وحدثتني أمي رحمهما الله أن الناس سنة الجوع 1327هـ يطيحون بالسوق موتى.
رحمهم الله ورحم والديه اللذين خرج منهما هذا النابغة, وتربى في كنفهما نادر من نوادر الرجال, وجزى الله الشيخ محمداً عنا وعن المسلمين خيراً.
فما كان قيسٌ هُلْكُه هلْكٌ واحدٍ
ولكنّه بُنيانُ قومٍ تهدَّما
وإن ما خلَّفه من تراث لهو تعزية لنا, فدونكم إرثه وتراثه قد ملئ عبراً وأحداثاً وقصصاً, تجد فيه ما تريده وزيادة, فكم حفظ الله به من مخطوطة وورقة, واعتنى بأمور كثيرة غفل عنها أكثر أهل جيله إن لم يكن كلهم, فلله دره, ورحمه الله, ورفع نُزُله ومنزلته.
وعزائي لأولاده رجالاً وإناثاً وجزاهم الله خيراً وأخص منهم ابنه الكريم ناصر الذي كان ملازماً مجلس والده خدمة وضيافة, وبارك الله فيهم جميعاً, وعوضنا وإياهم خيراً عن فقد معاليه, وأعزي الدكتور الكريم أبا عبدالله محمد المشوح الذي خدم الشيخ وتراثه حتى التصق اسمهما جميعاً, فكم رأيتُ الشيخ يأنس به ويفرح بحديثه.
والعزاء لنا جميعاً في رجل خدم العلماء وطلاب العلم والمسلمين وطاف ديارهم وديار غيرهم دعوة وإغاثة, وعوضهم في فقد علمائهم خيراً.
فقرَّت عيونٌ كنتَ شمل جفونها
وجادت بحزنٍ بالدّماء عيون وكتب
** **
- عضو هيئة التدريس في المعهد العالي للقضاء