د.سالم الكتبي
أحداث متسارعة تشهدها منطقة الشرق الأوسط هذه الأيام، وبما أن الأحداث وتواليها ليست مسألة عابرة في يوميات هذه المنطقة، فإن الجديد فيما يحدث هو أن الأحداث تنطوي على تحولات إستراتيجية كبرى يمكن القول إنها ترسم تاريخاً جديداً وتعيد «هندسة» العلاقات والتحالفات وبالتالي المعادلات الأمنية الإقليمية.
في صدارة هذه الأحداث تأتي الجولة التي قام بها الرئيس الأمريكي جو بايدن، وشملت زيارة إسرائيل والضفة الغربية والمملكة العربية السعودية، ونظرة واحدة على هذه المحطات الثلاث تؤكد أهمية رصد كل تفاصيل ما يحدث ونتائجه وانعكاساته المحتملة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
في إسرائيل، أولى محطات الجولة، وقّع الرئيس بايدن ورئيس الوزراء يائير لابيد بياناً مشتركاً يحمل اسم «إعلان القدس»، تعهدت فيه الولايات المتحدة بعدم السماح لإيران بامتلاك أسلحة نووية، وتأكيد المؤكد وتجديد المتجدد فيما يخص الالتزام الأمريكي التاريخي الثابت والراسخ بأمن اسرائيل، وهذا ما يفسر حرص البيان على توصيف العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية بعبارات تصب في خانة طمأنة الحليف الإسرائيلي لعمق الالتزام الأمريكي في هذا الشأن، ومن ذلك الإشارة للعلاقات بالروابط «غير القابلة للكسر»، كما بدا البيان أقرب إلى صيغة التعهد الدولي منه إلى البيانات المشتركة المماثلة، حيث أكدت الولايات المتحدة أن جزءاً لا يتجزأ من هذا التعهد هو الالتزام بعدم السماح لإيران مطلقاً بامتلاك سلاح نووي.
هذا التعهد الواضح والمباشر والصريح هو أقوى التزام سيادي أمريكي ـ حتى الآن ـ بالعمل على منع إيران من امتلاح سلاح نووي، والأمر لا يقتصر على ذلك فحسب بل يشمل الالتزام الصريح والمباشر وإعلان الاستعداد لأن تستخدم الولايات المتحدة «جميع» عناصر قوتها الوطنية لضمان هذه النتيجة (التصدي للتهديد النووي الإيراني المحتمل).
بالإضافة لما سبق، يتضمن «إعلان القدس» التاريخي نقاطا مهمة عدة أخرى منها التزام الولايات المتحدة بالعمل مع الشركاء الآخرين لمواجهة ماوصفه البيان أو الإعلان المشترك بالعدوان الإيراني والأنشطة المزعزعة للاستقرار، سواء كانت مدفوعة بشكل مباشر أو من خلال وكلاء ومنظمات إرهابية «مثل حزب الله اللبناني وحركتي المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي في فلسطين». وهنا لا يبدو الحديث كلاماً مرسلاً حيث جاء الإعلان قبل وقت وجيز من انعقاد قمة «9+1» بالمملكة العربية السعودية، والتي ضمت ـ بالإضافة إلى الرئيس الأمريكي ـ قادة دول مجلس التعاون الخليجي وزعماء المملكة الأردنية ومصر والعراق، وهو الحدث الذي يعكس رغبة أمريكية واضحة في ترتيب الأوراق بمنطقة الشرق الأوسط، والسعي لإعادة العلاقات الأمريكية مع حلفاء الشرق الأوسط إلى سابق عهدها، حيث تبدو إيران في موقع مركزي في إطار أي نقاشات على طاولة القمة.
ثمة نقطة أخرى وردت في الإعلان تتعلق بحدوث تغير نسبي في روزنامة الخيارات الأمريكية في التعاطي مع المسألة الإيرانية، حيث ينطوي البيان المشترك على التزام صريح باستخدام «جميع» عناصر القوة الأمريكية لمنع إيران من امتلاك قدرات نووية، ما يعني بشكل مباشر دخول القوة العسكرية ضمن روزنامة الخيارات الإستراتيجية الأمريكية للتعاطي مع التهديد الإيراني، وهذا الأمر يمثل تحولاً نوعياً فارقاً لإدارة بايدن التي ظلت تستبعد تماماً أي إِشارة للجوء للقوة العسكرية ـ تصريحاً أو تلميحاً ـ بل ظلت تحرص تماماً على تأطير أدوات الردع الأمريكي المحتملة وإحاطتها بسياج مفاهيمي دقيق كي لا تمنح أي فرصة للتأويل أو التفسير والتحليل ولو بالظن، ولم تذهب أبعد من الأدوات الدبلوماسية واستخدام آلية العقوبات القصوى كسقف للقوة الخشنة إن جاز اعتبارها ضمن هذا الإطار. ورغم ذلك لابد من الإشارة إلى أن تضمين الإعلان النص على الالتزام الأمريكي بدعم التفوق العسكري الإسرائيلي في المنطقة وقدرتها «على الدفاع عن نفسها بنفسها» يمثل مكسباً إستراتيجيًا إسرائيلياً من خلال توسيع هامش المناورة الإسرائيلية وتعزيز قدرة الردع الإسرائيلية بشكل منفرد في مواجهة أي تهديدات محتملة، وهو هدف يتماهى بشكل غير مباشر مع سياسة عدم الانخراط العسكري التي تتبناها إدارة بايدن تجاه الشرق الأوسط، وهي السياسة التي يعتنقها بايدن رغم محاولات الحديث عن تصحيح الأخطاء وغير ذلك.
التعهد باستخدام القوة ضد إيران لم يرد بشكل عابر في «إعلان القدس» بل سبقه تصريح مهم أدلى به الرئيس بايدن عشية زيارته لإسرائيل، قال فيه إنه لا يمانع استخدام القوة «كملاذ أخير» ضد إيران، وهو ما مثل استباقاً للزيارة وتفادياً لأي خلاف مع الجانب الإسرائيلي في هذا الشأن، وحرصاً على أن تحقق الزيارة أقصى نجاح ممكن يبدو الرئيس بايدن بحاجة ملحة إليه في الوقت الراهن.
ويشير تحليل مضمون «إعلان القدس» ودلالاته إلى أمور مهمة بعضها يتعلق بأهداف سياسية داخلية لكل من رئيس الوزراء يائير لابيد والرئيس الأمريكي جو بايدن، وبعضها الآخر يتعلق بإستراتيجية الولايات المتحدة في التعاطي مع الملف الإيراني بشكل عام، وهنا يمكن الإشارة إلى أن «الإعلان» ينطوي على هدف مزدوج لكونه يمثل أقوى رسالة ضغط على إيران حتى الآن، في توقيت تبدو فيه محاولات إحياء الاتفاق النووي أقرب إلى الفشل منها إلى النجاح، لذا فقد أراد الرئيس بايدن تعظيم الضغوط على طهران في محاولة لإثنائها عن موقفها التفاوضي المتشدد، وتقديم تنازلات تنهي المفاوضات الماراثونية باتفاق يحقق الحد الأدنى من مصالح الطرفين، الأمريكي والإيراني، وعلى الجانب الآخر يصب التعهد الأمريكي في خانة طمأنة المخاوف الإسرائيلية من تنامي القدرات النووية الإيرانية، وانعكاسات أي تفاهمات محتملة لإحياء الاتفاق النووي على أمن إسرائيل.
يستهدف الرئيس بايدن إذا طمأنة الحليف الاسرائيلي، والضغط على إيران في آن واحد، ولكن يبقى التساؤل: إلى أي مدى يمكن أن يتحقق هذان الهدفان بالتزامن؟ بلا شك أن الأمور جميعها مترابطة ويصعب تفكيك جزئية عن أخرى، فالالتزام الأمريكي بأمن إسرائيل، رغم كل شيء، يبقى تأكيداً للمؤكد، وإن كان لا يخلو من مكسب يتمثل في انتزاع مكاشفة صريحة ومباشرة من إدارة بايدن بالمضي على النهج التاريخي الأمريكي الراسخ من دون أي محاولة لإمساك العصا من المنتصف أو ترك مسألة أمن إسرائيل للتأويل والتفسير، كما حدث في حالة الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة أوباما عام 2015، وهو ما يضفي أهمية استثنائية على هذا الإعلان الذي تحدث بشكل مباشر عن إعلان رسمي أمريكي لا إعلان حزبي ديمقراطي.
وتبقى مسألة الضغط على إيران رهن قراءة النظام الإيراني لنتائج جولة الرئيس بايدن، وما دار خلال لقاءات القمة التي عقدها سواء في إسرائيل أو المملكة العربية السعودية، سواء تم الإعلان عنه أو لم يتم، وهنا تقفز إلى المشهد فوراً الزيارة المرتقبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لطهران، والحديث عن لقاء محتمل له مع المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، حيث لا يمكن قراءة أهداف الزيارة بمعزل عن جولة الرئيس بايدن وما أسفرت عنه من نتائج.