د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
لقد احترتُ فيما سأكتبه عن معالي شيخنا الجليل محمد بن ناصر العبودي رحمه الله عميد المشايخ والرحالين والمؤلفين والكتبيين والمؤرخين والمثقفين, وسببها لا قلة المعلومات أو شُحَّ مواردها بل لكثرتها وتواردها وتنوعها, فهو جامع فيه من العلوم ما لذ وطاب, وجامعة مفتوحة الأبواب, كم منتفع به في المشارق والمغارب, وكم من مستفيد منه في الجبال والسهول والهضاب, لفَّ العالم بحثاً عن المسلمين في بلدانهم وغير بلدانهم, أغاث الله به أمماً من الناس دعوةً إلى توحيد الله واهتماماً بقضاياهم ونقلاً لما يراه لولاة أمرنا رحم الله أمواتهم ووفق أحياءهم لكل خير, ذكر رحمه الله أنه قال للملك فيصل رحمه الله لما سأله عن وضع المسلمين: يا طويل العمر, المسلمون في أكثر البلدان يتامى! فتأثر الملك فيصل تأثراً كبيراً, وهذه عادة حكامنا غفر الله لهم جميعاً في الاعتناء بالمسلمين حقيقة ومعنى.
وكان الشيخ محمد العبودي رحمه الله دائم الحديث عن فضل المملكة العربية السعودية على المسلمين ودعمها الكبير والكثير والمتتابع بل كان يقول: لولا فضل الله ومنته وما هيأه من دعم ولاة أمرنا لي لم أفعل ما فعلتُ من التطواف بالهجر والقرى والمدن في العالم تفقداً لأحوال المسلمين, وربطهم وترابطهم برابطة الإسلام والسنة.
فلآل سعود جزاهم الله عنا وعن المسلمين خيراً أيادٍ بيضاء لا ينكرها إلا جاحد للمعروف لئيم مخذول.
وَأَظلَمُ أَهلِ الظُلمِ مَن باتَ حاسِداً
لِمَن باتَ في نَعمائِهِ يَتَقَلَّبُ
لم يكن الشيخ رحمه الله يتجول سياحةً ودفعاً للسآمة ولا بلدانياً ورحالة فقط بل كان داعياً إلى الله يجول في أرضه, قرَّب المسلمين وبلدانهم وثقافاتهم إلى بعض.
كان مهتماً بأهل الحديث اهتماماً يليق بهم, ويعتني بأحوال من استطاع منهم.
فلله دره كم خدمةً قدمها للمسلمين؟!
وكم نفعٍ بذله لطلاب العلم في المشارق والمغارب؟
وكم حفظ الله به من العلوم في شتى الفنون؟
بذل نصحه وصحته خدمة للمسلمين, قام بجهد طيلة عقود تنوء به المنظمات والهيئات, أحسبه والله حسيبه أنه كان مجتهداً لله ومتعبداً لمولاه وكان مباركاً بفضل الله.
مَا زَالَ يحلب هَذَا الدَّهْر أشطره
يكون مُتَّبِعاً طوراً ومُتَّبَعا
لا مُتْرَفاً إنْ رخاءُ العيشِ ساعَدَه
ولا إذا عَضَّ مَكْروهٌ بِه خَشَعا
لا يَطْعَمُ النَّوْمَ إلا رَيْثَ يَبْعَثُهُ
هَمٌّ يكادُ حشاهُ يَحطمُ الضِّلَعا
لم يتنازل عن مبادئه, ولا قيمه وتدينه, ولا لغته ولسانه, رأى الثقافات المختلفة, وبريق الأفكار واختلط بأهلها في بلدانهم فكان محافظاً على تدينه منفتحاً في تعامله, وهذا توفيق من الله؛ إذ الخلط في ذلك يعود على صاحبه بالاختلال ثم الإخلال فما أكثر من غلا أو تطرَّف أو أفرط أو فرَّط لكن الشيخ رحمه الله يعود إلى مجتمعه ووطنه معتزاً بهما لا ناقماً عليهما ولا محاولاً إفساد فكر أو تحريف منهج بل كان سلفياً على الجادة مستفيداً من التجارب, ناقلاً للخبرات, باذلاً نصحه لأمته, مخبراً عن النِّعم التي نعيشها, والخير الديني والدنيوي الذي نحن فيه.
ألَّف رحمه الله الكتب والكتيبات, وصنع المعاجم وصاغ كتب الرحلات.
فريد في فنونه, عجيب في همته, قارب المائة وسمعته يقول وقد جاوز التسعين: أُمضي ثلاث عشرة ساعة في المكتبة!
ولي قَلَمٌ في أَنْمُلي إِن هَزْزْتُه
فما ضرَّني أَلاَّ أَهُزَّ المهنَّدا
ما أكثر فضله, وأحسن ذكره, وأطيب سيرته, فيا واسع المغفرة أغفر له.
لا أعرف رجلاً كتب عن البلاد كما كتبه بل ربما تفرَّد في الكتابة عن بلاد لم يُكتب عنها.
كان أول لقاء لي به في مكتبه برابطة العالم الإسلامي في مكة, إذ صحبتُ الشيخ سعد الحصين رحمه الله إليه فلما دخلنا عليه قام مرحباً ومشى إلى الشيخ سعد فتعانقا رحمهما الله ثم سلمت على معاليه مقبلاً رأسه وقد عرَّف بي الشيخ سعد, فلما جلسنا حوله, قال رحمه الله: الشيخ محمد الفريح, فقال: هنيئاً لكم في اسمكم! فالناس تطلب الفرح في حياتها, وقد جعله الله في اسمكم ولكم نصيب منه, فقد أفرحني دخولكم عليَّ, والشيخ سعد دائماً أدعوه للزيارة لكنه لا يستجيب خشية أن يشغلني على قوله, وهو حقيقة يُؤْنَس بمثله, ثم أهدى الشيخُ سعدٌ بعض مهذباته, فقال له الشيخ محمد: أنت سيوطي شقراء! على كثرة اختصاراتك للكتب التي تراها مهمة, وأرى أن تسميه مختصر كذا أو مختارات من كذا لا أن تسميه مهذباً, فهي ألطف عبارة وتؤدي المقصود, إلا إذا كان فيه أغلاط فهنا يحتاج إلى تهذيب فعلاً, فقال الشيخ سعد: لكني أحذف فقط العبارات التي أراها زائدة ولا أحاول التدخل في اللفظ إلا نادراً.
انقضى المجلس بلطائفه ودرره وجماله وودعنا الشيخ وكان حريصاً على تشييعنا إلى خارج مكتبه فرفض الشيخ سعد رفضاً باتاً.
كانت الساعة تمضي معه سريعاً من لذة مجلسه, وحسن حديثه, وكثرة فوائده, حتى كأنك تتذكر قول الشاعر:
نهار كشبر الذَّرِ أو هو دونه
وليل كإبهام القطاة قصير
كنتُ آمل أن أجد طريقاً لأهتدي إليه رحمه الله, فكان ذلك اللقاء الأول والوحيد تلك الفترة ثم اتصل بي أحد علمائنا الكبار طالباً توصيل أمانة للشيخ محمد, فقلت: أبشر, وزودني برقمه, فقلت: الحمدلله أن يسر لي معاودة لقياه بعد تقاعده من الوظيفة, فاتصلت به, فرحَّب وضرب لي موعداً في يوم خميس بعد المغرب, فجلست إليه في مجلسه بين العشاءين جلسة خاصة لا ثالث لنا, فدار الحديث عن العطار وسدير عموماً, وأذكر مما قاله: سدير تراها ليست ديرة ماء, ديرة نخل على وديان, إذا سال الوادي ما على النخل نشدة, أما إذا لم يسل فالنخل يموت, وتصفي القلبان, ويهاجر أهله إلى الكويت والعراق والقصيم وما أشبه ذلك, إلا فعمارة سدير قديمة بس هالنوبات التي تجيهم من قِل الماء, ثم قال لي: وش معنى سدير؟ فقلت: تصغير سِدْرٍ, من شجرة السدر, فقال رحمه الله: صديقنا الشيخ عبدالله بن إدريس من سدير, فقلت: معروف, فقال: فيه اثنان عبدالله بن إدريس واحد من سدير والآخر من الوشم, لما كنتُ مدير المعهد العلمي ببريدة جاءنا هذا سنة, وجاءنا هذا بعده سنة, يقول: إن سدير أصلها صدير, تصغير صدر, هكذا يقوله.
وحدثني عن شيخه صالح بن عبدالرحمن السكيتي رحمه الله أنه قال: طرأ علينا أن نذهب وزميل لي يقال له صالح الرسيني -كلاهما طلبة علم- لنقرأ على آل الشيخ في الرياض لكن ما عندنا قروش ولا عندنا أجرة للجماميل, فكل منا أخذ نعاله وعصا وتمراً قليلاً ملء الكف, وذهبنا عن طريق سدير؛ لأن أهل سدير مشهورون بالضيافة, يقول الشيخ السكيتي: ما قعدنا ليلة بلا عشاء, فقلتُ له: (القائل محمد العبودي): وش يحطون لكم, فقال: على حسب, بعضهم عشاء فاخر «جريش وقرصان», وبعضهم «دويفة», فهم يعطونا من عشاهم الذي عندهم, فقلت: لم العصا؟ فقال: لأجل الهوام ونحوها, وكما قال موسى عليه السلام:(ولي فيها مآرب أخرى), ومنها إذا كانت القايلة نصبناها ووضعنا الغترة عليها نتوقى من الشمس.
قال العبودي: إن شيخي يمدح أهل سدير بالضيافة, ولم ينس ذلك مع مضي العقود عليها.
قَوْمٌ لَهُمْ شَرَفُ الدُّنْيَا وَسُؤدَدُهَا
صَفو عَلَى النَّاسِ لَمْ يُخْلَطْ بِهِم رَنَقُ
يقول السكيتي رحمه الله: أقمنا واحداً وعشرين يوماً بالطريق مشياً على الأقدام من بريدة إلى الرياض.
تأمل الهمة في طلب العلم, والرحلة فيه, ومعرفة من يقصدون.
سألته في هذه الجلسة من أحب مشايخكم لكم؟ فقال: الشيخ ابن حميد رحمه الله هو أنفعهم لي, هو الذي له فضل كبير عليَّ, كان يروح بي إذا طلبه الملك عبدالعزيز رحمه الله؛ لأجل أقرأ عليه.
عِش ألف عام للوفاء وقلَّما
ساد امرؤ إلّا بحفظ وفائه
وذكر رحمه الله أن الشيخ عبدالله ابن حميد رحمه الله كان يدله من طريق في طريق في الرياض قال الشيخ محمد: حتى وصلنا إلى أحد المنازل لزيارة ساكنيه, فإذا به منزل عمة الملك عبدالعزيز «طرفة بنت فيصل بن تركي» رحمهم الله, يقول الشيخ محمد: ما زلتُ أذكر ترحيبها بالشيخ عبدالله وحفاوتها بزيارته؛ إذ كان الشيخ عبدالله قد أمَّ بها فترة من الفترات قبل توليه القضاء.
على ذكر القضاء, قال الشيخ رحمه الله: الذي يفرح بتركه للقضاء لأجل الذمة وخوف الأمانة قليل, ثم ذكر ما جرى لأحد القضاة عُزِل ووُلِّي غيره, فالمعزول يقول: استرحنا, والمولَّى يقول : أُجبرنا, ثم ذكر قول العُصْفُرِي الشاعر:
عندي حديثٌ ظريفٌ ... بِمِثْلِهِ يُتَغَنَّى
من قاضيين يُعَزَّى ... هذا وهذا يُهَنَّا
هذا يَقُولُ: أَكْرَهُونا... وذا يَقُولُ: اسْتَرَحْنَا
ويكذِبان جميعًا... ومَن يُصَدَّقُ مِنّا
قدمتُ لمعاليه رحمه الله جملة من المؤلفات التي كتبتها بين يديه فقام يستعرضها واحداً تلو آخر وهو يقرأ كل مؤلَّف ثم يعلق عليه, وأذكر لما قرأ عنوان (الإمتاع في حكم الغناء والمعازف والإيقاع) قال: ما أحسنه وأنفعه لو أطاعك الناس!
ولما وصل إلى رسالتي الدكتوراه «وهي تحقيق جزء من التعليق الكبير لأبي يعلى رحمه الله» فرح بها جداً وقال: هذه أحسن هدية, وقال: قد قرأتُ بعض كتب أبي يعلى على شيخنا ابن حميد رحمه الله, واهتممتُ باختياراته, ومدرسته الفقهية, فكتابكم هذا قد أرجعني بالذاكرة لتلك الأيام قبل ستين سنة, فلابد أن أكتب عنه مقالاً. وقد كتب رحمه الله مقالاً عن الكتاب بعد مدة من اللقاء ضمَّنه جملة من ذكرياته في ذلك الزمان نُشِرَ في صحيفة الجزيرة يوم الأربعاء 14-11-1437هـ.
والشيخ محمد العبودي رحمه الله له اهتمام كبير بالمذهب الحنبلي فقد نسخ ذيل الطبقات لابن رجب بيده عام 1364هـ, ونسخ عدداً من المخطوطات, وقال: كنا نقرأ على بعض مشايخنا في مطالب أولي النهى فجاء ذكر (إذا تجشأ وهو في الصلاة، فليرفع رأسه إلى السماء حتى يذهب الريح، وإذا لم يرفع آذى من حوله من ريحه), قال معالي الشيخ محمد رحمه الله, فقلت على رفع الرأس في هذا الموضع على طريقة مرعي رحمه الله في الغاية: ويتجه إذا كان قصيراً فلا يرفع.
أخبرنا رحمه الله أنه ذهب مع صاحبه عبدالله البقيشي إلى عنيزة مشياً على الأقدام عام 1364 لما سمعا بوجود نسخة مخطوطة من كتاب الإنصاف في مكتبة جامع عنيزة, وأن الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله يبيح للطلاب القراءة فيه على ألا يخرج من المسجد, فذهبا إلى عنيزة وحضرا بعض دروس الشيخ ونظرا في المخطوط.
عَزَمَاتُهُمْ بَيْنَ السُّيُوفِ صوَارِمٌ
وَقُلُوبهم تَحْتَ الحَدِيْدِ حَدِيْدُ
وسمعته رحمه الله يقول: إنه اشترى بعض المخطوطات بريال ونصف في المدينة النبوية أول ما قدم إليها.
وحدثني أنه في سوق الحراج ببريدة رأى عبدالمحسن المقبل يحرِّج على مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود بستة قروش, وبعد مدة رآه يحرِّج على القاموس أربعة مجلدات, قال الشيخ محمد: وقد زاودتُ فيه لأشتريه.
وقال:كلفني الشيخ ابن حميد رحمه الله بشراء كتب وأعطاني مبلغاً من المال, فذهبت إلى مكة واشتريت حمل سيارة! وأكثر الكتب اشتريتها من عبدالفتاح فدا.
وذكر الشيخ أن شيخه عبدالله ابن حميد أخبره أن مكتبة الشيخ صالح القاضي رحمه الله ستباع ببيريدة بعد وفاة ابنه عثمان عام 1366هـ إذ كان الناظر المشرف عليها, فقال الشيخ محمد العبودي للشيخ عبدالله: ما الحد الأعلى من الريالات؟ فقال: لا حد لذلك الأمر راجع لك, فاشتريت لشيخنا ما شاء الله ومن بينها مخطوط نادر قد كُتب في القرن الرابع الهجري ليس فيه نقط! هو كتاب مشكل الآثار للطحاوي.
يقول الشيخ محمد: واشتريتُ لنفسي من النوادر من هذه الكتب «كتاب الجبر والمقابلة» للخوارزمي, وقد كتب في عام 750هـ بخط جميل وفيه الرسوم الهندسية مرسومة بالخط الأحمر.
شجاعٌ إذا لاقى، ورامٍ إذا رمى
وهادٍ إذا ما أظلم الليل مصدع
كان رحمه الله ناصحاً يجود بالرأي ويكشف جوانب النفع فيه, سألني هل لي بيت في الرياض؟ فقلت: لا أملك بيتاً بعد, وإنما أسكن في بيت مسجد, فقال رحمه الله: هذا كما في الحديث»مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجُعل يتقوون به على عدوهم مثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» (الحديث ضعيف) فضحكنا, ثم قال: أحمد ربك, تصلي بالناس محتسباً وتسكن في بيت, فقلت: الحمدلله, ثم قال: لكن لا ينبغي أن يمنعنَّك عن البحث عن بيتٍ ولو بعيداً؛ لأن البعيد يصير قريباً, في ذلك الوقت كنتُ أبحث عن مسكنٍ آخر غير الذي كنا فيه في حي الفوارة لما تخرج الابنان وتزوج أحدهما, فصار كل منهما يحتاج بيتاً, فأتيتُ إلى هذا المكان الذي نحن فيه «ما تجيها يا الله كان الطيور», ولا حوله شيء, واشتريتُ من رفيق لنا يقال له «السحيباني» المتر بـ190 ريالاً, وكنتُ ناوياً أصغر الأرض المشتراة فقال: لا, طع شوري وكبر ولن تندم, وفعلاً أخذت برأيه جزاه الله خيراً, والآن الذي تراه, صرنا في وسط الرياض, فدوِّر مسكناً ولو كان بعيداً ولو صغيراً, فالذي ليس له منزل, حياته كسيفة يكد للناس, وأحياناً ما يكفي يقال له: اطلع! هذه المشكلة.
ثم قال الشيخ: أذكر أن جاراً لنا في هذا الحي لما أكمل بناء بيته أقام مأدبة وعزم صاحب السمو الملكي الأمير سلمان أمير الرياض حينها «خادم الحرمين الشريفين» حفظه الله وبارك في عمره وعمله, فقال الأمير مخاطباً صاحب المنزل: إن بيتك هذا قبل مدة نصيد فيه الحبارى, ثم يستطرد الشيخ محمد رحمه الله في شرح الحبارى وأنه جمع حبارى, وأنها لا تكون إلا في أرض قفر, يقول الأمير تتمة لحديثه: ذكرها لي أحدهم أنه رآها هنا, فطلعت من الرياض لأصيدهن وإذا هي ثمانٍ, وكان الوقت بعد العصر «مسيان», فصيدتُ ثلاثاً, والباقي جلن, ولما أصبح الصبح ذكرتهن للملك سعود رحمه الله وذاك الوقت كان ولياً للعهد فطلع مع بعض رجاله أو أرسل بعضهم فصادوا الباقي... المقصود أن هذا برٌّ وبعيد, فمن يصدق أن يكون فيه هذا البنيان, فالمراد تحصيل بيت ولو كان بعيداً.
طيبني بدهن عود في أول الجلسة وقال: هذا دهن عود جاءني من الهند خاص, وهو هدية لك.
وفي آخر الجلسة أهداني بعض مؤلفاته, فما أطيب مجلسه, وأزكى نفسه, وأكرم لفظه ويده رفع الله منزلته ودرجته.
قالوا قضى حسن المناقب فارثه
فأجبتهم ومدامعي تتحدر
لا أستطيع رثاء من لمصابه
أضحى لساني في فمي يتعثر
ولما شيعني إلى الباب قال: يا شيخ محمد عندي جلسة مفتوحة كل مغرب اثنين فلعلك تشرفني فيها يأتي فيها بعض الفضلاء, فقلت: الشرف لي وبإذن الله سأكون في طليعة الحاضرين.
فكنتُ آتي إليها ما لم أُشغل عنها مستمتعاً بما يدور فيها, وغالباً أكون في خامس مقعد عن يمينه رحمه الله, وقد كتبتُ عن هذه الجلسة مقالاً نشر في صحيفة الجزيرة بعنوان (عن مجلس الشيخ الموسوعي محمد العبودي أحدثكم) نشر في 10-6-1437هـ.
وأذكر مرة دخلتُ عليه مجلسه وكنتُ دائماً أترك ثلاثة أماكن بجواره ليجلس فيها من يراه الشيخ أو من يستحق التقديم؛ إذ مجلسه رحمه الله مقصود, فقال لي: اجلس هنا وأشار بالمكان الذي عن يمينه مباشرة, فقلت: هناك يا شيخنا أنسب فأخشى أن يأتي أحد فأُقام لأجله! فقال: لك ألا أقيمك من مكانك, فجلستُ حيث أمر, فكان كلما جاء رجل يريد الشيخ أن يجلسه قريباً منه, قال: خلك على يمين الدكتور محمد!
سمعته رحمه الله يقول: الكتب رخيصة في الوطن العربي, وذكر قصة ديوان أبي حيان المفسر اشتراه رجلٌ -سماه الشيخ محمد- يقول: وجده يباع مخطوطاً في مكة بخمسة ريالات, وباعه على جامعة الملك سعود لما كان مديرها الدكتور الخويطر بأضعاف مضاعفة.
وسمعته يقول: إنه دخل مكتبة في الحرم المكي فصار ينسخ ما شاء الله من المخطوطات ويمكث بالساعات والأيام يكتب وينسخ وينقل الفوائد من كتب نوادر, وهذه المكتبة كانت داخل الحرم في القبو, وقد ذهبت احتراقاً بسبب فتنة جهيمان التي وقعت في الحرم.
- يتبع
** **
- عضو هيئة التدريس في المعهد العالي للقضاء