الأدب الجميل هو الأدب القادر على صياغة تفاصيل الحياة بمشاعر إنسانية تستقي من الخيال مادتها، أو من ترتيب الواقع وإعادة صياغته بصورة تثير المتلقي وتشحذ ذهنه.
ويشترك الأدب مع الفنون الجميلة -كالسِّنما والرسم والموسيقا- في التعبير عن المشاعر الإنسانية وتجسيد حالاتها المختلفة؛ فالسنما فن الصورة المعبرة والحركة المؤثرة، والأدب فن الكلمة الملهمة، كلٌّ منهما له تأثيره، فكيف إذا اجتمعا في عمل فني؟!
لقد وفّرت السنما لكثير من الأعمال الأدبية نوعاً آخر من القراءة، حين عمد صُنّاع الأفلام إلى اصطفاء أروع الأدباء، ليصوغوا منها أفلاماً سنمائية، أخذت نصيباً وافراً من إعجاب المتلقين.
فالأدب إذن من الروافد المهمة التي ألهمت السنما، وفي الوقت نفسه أفادت منه؛ إذ اتسعت دائرة المتلقين، وأصبحت الأدوات الفنية التي يخاطب بها المخرج السنمائي حواس المخاطب أكثر تأثيراً في وجدانه من القراءة الصامتة للعمل.
ولن يجد المتلقي في العمل السنمائي قراءة جديدة للنص الأدبي، تؤثر في وجدانه إلا إذا اكتملت عناصر الإبداع (المخرج الملهم، وكاتب السيناريو المتمكن، والأديب المبدع)؛ فالمخرج الخبير، حينما يجد العمل الجيد، يستطيع أن يستنطقه، مستجلياً أبعاده الفكرية والجمالية، جاعلاً النص أكثر قدرة على تحريك المشاعر وخلق أجواء من المتعة والفائدة. وقد شهدت علاقة السنما بالأدب قراءات سنمائية سطحية لنصوص أدبية عميقة؛ كان سببها إخفاق المخرج أو كاتب النص السنمائي (السيناريو).
وإذا ذكرت علاقة السنما بالأدب، فلابد أن يكون اسم الأديب الكبير نجيب محفوظ حاضراً؛ بوصفه أبرز الكتاب العرب المعاصرين الذين حولت أعمالهم إلى أفلام، كما أنه مارس كتابة النص السنمائي (السيناريو)؛ فكان له أثر كبير في التفات السنما المصرية إلى النصوص التي تشكلت في الحقل الأدبي، وكان لتجربته في هذا المجال صدى واسع في الدراسات الدائرة حول علاقة الأدب بالسنما، وكذلك الدراسات التي تناولت تجربته الروائية.
وإذا نظرنا إلى الرسم ومدى علاقته بالأدب، وجدنا أنهما يشتركان في مخاطبة المشاعر الإنسانية والتأثير فيها، وقد عُرفت هذه العلاقة منذ القرن الخامس قبل الميلاد، حين أطلق الشاعر اليوناني (سيمونيدس) عبارته الشهيرة «إن الشعر صورة ناطقة، أو رسم ناطق، وإن الرسم أو التصوير شعر صامت».
من هذا المنطلق تأتي علاقة الفن التشكيلي بالأدب؛ فالرسام يظهر عواطفه من خلال اللوحة، والأديب فنان، يرسم بالكلمات، فاللغة هي الأداة التي يشكل بها تحفه وجواهره، كما يصنع النحات الماهر تمثاله، وكما يبدع الرسام الموهوب لوحته.
ويبدو أن الترابط النسيجي الذي يجمع اللوحة الفنية بالقصيدة ذو أثر في علاقات الود التي تقرب الفنانين التشكيليين من الشعراء، بل إن هذا الترابط هو ما يفسر كثرة الشعراء الرسامين، وتوافر الفنانين التشكيليين الذين يتذوقون الشعر وينظمونه.
ومن الشعراء من كان ناقداً فنيّاً، يتابع حركة الفن التشكيلي، متأثراً بها في أدبه. وأبرز من يمثل هذا في الأدب العالمي الشاعر المجدد (بودلير)، أما في الأدب العربي فيأتي صلاح عبد الصبور في مقدمة الشعراء الذين اهتموا بهذا الفن.
وبداية تمازج الرسم والشعر في الأدب العربي،كانت في العصر المملوكي، حين رأينا المقطوعات الشعرية تأتي على أشكال هندسية، كالدائرة والمثلث والمربع والمعين، ثم جاءت الصحافة، فكان الرسم مصاحباً للشعر، وتطورت العلاقة مع حركات التجديد في الأدب العربي الحديث، فدخلت الصورة في بناء النص السردي وإنتاج خطابه، وبتنا نعيش في عصر الصورة الافتراضية، وعصر الانفجار الرقمي، منتظرين مزيداً من الدراسات النقدية المواكبة.
أما علاقة الأدب بالموسيقا فموغلة في القدم، إرهاصاتها تلك الألحان التي ترنم بها راعي الإبل في الصحراء العربية وهو يسوق إبله ويحثها على الإسراع في السير.
والأديب موسيقي يعزف بالكلمات، مبتغاه التأثير في متلقيه، أداته اللغة، وعلى قدر براعته في مَوْسَقتها؛ يكون سحرها وجمال وقعها في الأسماع؛ وهذا هو السر في أننا نسمع نصّاً أدبيّاً، فتسري ألفاظه وعباراته في نفوسنا، حتى ليخيل إلينا أن المبدع ينحت الألفاظ نحتاً، وأن شهوة الترنم قد غشيته لحظة الإبداع، سواء أكان النص رقيقاً أم جزلاً؛ إذ إن اللفظ قد يكون عذباً، يذوب رقة، تغمرك رنته نشوة وطرباً، وقد يكون من اللون الخطابي المجلجل، الممتع؛ والصوت في الحالتين هو العامل الأهم في الإطراب والإمتاع.
والشعر أكثر الأجناس الأدبية صلاحية للإنشاد؛ لأن الموسيقا عنصر مهم من عناصر بناء النص الشعري، يقول حسان بن ثابت (رضي الله عنه):
تَغَنَّ في كلِّ شِعْرٍ أنتَ قائلُهُ
إنَّ الغِناءَ لهذا الشِّعرِ مِضْمارُ
وجاء في (العمدة) لابن رشيق:»وقيل: مِقْوَدُ الشعر الغِناءُ به»، ثم ذكر أن متشرفاً تشرف لشاعر العربية الكبير أبي الطيب المتنبي وهو يصنع إحدى قصائده، فسمعه وهو يتغنَّى ويصنع، فإذا توقف بعض التوقف، رجَّع بالإنشاد من أول القصيدة إلى حيث انتهى منها، ويروى أن الشاعر اليوناني الكبير (هوميروس) كان يُلحِّن شعره ويُغنيه، وفي هذا السياق، يقول الشاعر والناقد الأمريكي (عزرا باوند):» نحن جميعاً نؤلف الشعر على هدى لحنٍ ما».
وقد تكلم مؤرخو الأدب ونقاده على العلاقة الجوهرية التي تربط الشعر بالموسيقا والغناء، يقول الدكتور شوقي ضيف في مقدمة كتابه (الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية):»من يقرأ الشعر العربي، وينظر في نصوصه ونماذجه الكثيرة، يجد صورتين متقابلتين منذ العصر الجاهلي، صورة تقليدية، تعتمد على رسوم وتقاليد كثيرة، وصورة أغانٍ خالصة، تعتمد على العزف والضرب على الآلات الموسيقية...ولم تكن تدور حول المديح والهجاء، وإنما كانت تدور -غالباً- حول الغزل ووقائعه، ولم تكن تقال لتنشد، وإنما كانت تقال لتغنى وتصحب بالعزف والضرب على الأدوات الموسيقية».
هذه العلاقة التي تؤلف بين الأدب والموسيقا، التفت إليها الأوائل، كما اهتم بها المتأخرون في الغرب والشرق، وتصدوا للتأليف فيها. ومن أهم المؤلفات في العصر الحديث (الأدب والموسيقا) لأستاذة الأدب المقارن بجامعة بروفانس الفرنسية ( أود لوكاتيللي)، و(في الموسيقا والأدب) للقاص والناقد العراقي نجيب المانع، و( الموسيقا والشعر) للشاعر والناقد العراقي فوزي كريم، وإذا عدنا إلى تراثنا، وجدنا أن كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني -الذي يعد أحد مصادر الأدب المهمة- قد اهتم بالموسيقا، حتى عده المؤرخون أكبر مرجع عربي في تاريخ الغناء وآلاته وقواعده، بعد ( كتاب الموسيقا الكبير) للفارابي.
** **
- د. محمد بن سليمان القسومي