د. عبدالحق عزوزي
سُجلت درجات حرارة قياسية هاته الأيام في بلدان غرب أوروبا -من بينها فرنسا وبريطانيا- تجاوزت بعضها 40 درجة مئوية، فيما تحصد حرائق الغابات مزيدًا من المساحات الحرجية. فقد وصلت الحرارة إلى 37.5 درجة مئوية في كيو غاردنز بجنوب غرب لندن، فيما بلغت 42 درجة في مدينة نانت (غرب فرنسا). وسُجلت مستويات قياسية في هولندا بلغت 33.6 درجة مع تحذير من احتمال وصولها إلى 38-39 الثلاثاء. ويتوقع أن تبلغ الحرارة في بلجيكا 40 درجة وأكثر... كما لم يتمكن عناصر الإطفاء في جنوب غرب فرنسا من احتواء حريقين كبيرين تسببا بدمار هائل. وعلى مدى ستة أيام، واجهت جيوش من عناصر الإطفاء وأسطول من طائرات الإطفاء صعوبة في إخماد حرائق.
وأتت الحرائق المشتعلة في فرنسا واليونان والبرتغال وإسبانيا على آلاف الهكتارات من الأراضي وأرغمت آلاف الأهالي والسياح على الفرار من أماكن إقامتهم.
وكانت النيران لا تزال تشتعل في منطقة يبلغ طولها تسعة كيلومترات وعرضها ثمانية كيلومترات، قرب كثبان بيلات الرملية الفرنسية الأكثر ارتفاعًا في أوروبا، محولة هذه المنطقة الخلابة المعروفة بمواقع التخييم والشواطئ البكر إلى مساحات متفحمة.
وعملت السلطات على إجلاء 8000 شخص قرب الكثبان منذ أيام، في وقت تسبب تغيير مسار الرياح في انتشار دخان أسود كثيف فوق مناطق سكنية.
وتقول المنظمة العالمية للأرصاد الجوية في هذا الصدد إن ارتفاع درجات الحرارة عالميًا هو السبب الرئيس في مثل هاته الحرائق؛ وكل هذا يرجع إلى انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وبمعنى آخر فإن البشرية تدفع ثمن هذا الاحتباس الحراري وثمن الاستغلال اللاإنساني لثروات الأرض التي تؤدي إلى التلوث وأخواته. وما هاته إلا البداية؛ فإذا كان هناك سبب كبير للأحداث التي ستؤثر تأثيرًا عميقًا على جميع البشر في كل أصقاع الكرة الأرضية في العقود المقبلة فسيكون هو التغير المناخي لا محالة، وستؤثر عواقب هذا التغير على كل أنحاء الكرة الأرضية ربما ليس في التوقيت ذاته أو بالشدة نفسها، ولكنها ستلحق بنا جميعًا في نهاية المطاف.
ومنذ مدة حذر البنك الدولي من أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من بين أكثر الأماكن على الأرض عرضة للخطر نتيجة لارتفاع منسوب مياه البحر، خاصة المناطق الساحلية المنخفضة. كما توقع أن يتعرض عشرات ملايين البشر في المنطقة لضغط نقص المياه بحلول عام 2025. وشح المياه نتيجة الجفاف سيؤدي بدوره إلى زيادة الضغط على موارد المياه الجوفية وإلى قلة المحاصيل الزراعية، مما سينعكس على اقتصاد هذه الدول، وعلى العائدات من المحاصيل الزراعية والسياحة، وعلى معدلات البطالة وضعف القدرة الشرائية وما سيتبعها من مشاكل مجتمعية.
وقد أظهرت البيانات الصادرة مؤخرًا عن «كوبرنيكوس» أن درجات الحرارة في كل أنحاء العالم في العام الماضي كانت في المرتبة الثانية بعد عام 2016 حين ارتفعت الحرارة 0,12 درجة مئوية بسبب ظاهرة «النينيو» المناخية.
وأظهر التقرير أن السنوات الخمس الماضية كانت الأكثر حرًّا على الإطلاق، وكانت الفترة الأكثر دفئًا منذ بدء التسجيلات. وارتفعت الحرارة على مستوى العالم في عام (2019) 0,6 درجة مئوية عن متوسط الأعوام 1981- 2010، كما ارتفعت حرارة الأرض خلال السنوات الخمس الماضية ما بين 1.1 و1.2 درجة مئوية مقارنة بالفترة ما قبل الثورة الصناعية. وأضافت «كوبرنيكوس» بأن تركيزات الكربون في الغلاف الجوي استمرت في الارتفاع في عام 2019 ووصلت إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق.
ويشهد العالم زخمًا عالميًا منقطع النظير تجاه التغير المناخي في العديد من المنتديات متعددة الأطراف. وهذا الزخم لا رجعة فيه حيث لا تساهم فيه الحكومات فقط، بل يساهم فيه كذلك العلم والأعمال والعمل العالمي في مختلف الأصعدة. فمسؤولية الجميع اليوم تتمثل في اغتنام هذا الزخم بشكل جماعي للمضي قدمًا نحو خفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري وتعزيز جهود التكيف، والاستفادة ودعم خطة التنمية المستدامة لعام 2030 وأهداف التنمية المستدامة. فكل القرارات الدولية في مجال المناخ هي قرارات مشروعة تنم عن مسؤوليات مشتركة وجماعية، والتمني الوحيد هو أن كبار الفاعلين الدوليين يقتنعون بمصير كوكبنا الذي خلقه الله أمنًا وأمانًا لنا، وهو ليس ملكًا لأحد، فوجب عليهم المحافظة عليه للأجيال المقبلة والقيام بكل ما يمكن المساهمة في إيقاف قاطرة التلويث والاحتباس الحراري، هذا هو التحدي الأكبر.