إن الحديث عن معالي شيخنا العلامة محمد بن ناصر العبودي -رحمه الله- حديث مترعٌ بالشجَن، مليء بالعواطف، تتنازعه الذكريات والمواقف، وتستنهضهُ السنين الطويلة التي عرفته فيها، وقاربته وأفدت منه.
ولأجل ذلك حينما شرعت بكتابة ما تقرأُهُ الآن، تداعت إلى قلمي مقاصد شتَّى عن الشيخ، كلٌّها حقيقة بالذكر، جديرة بالتدوين لكن المقام أضيق من المقال، فشيخنا -رحمه الله- ليس ممَّن تحيط بسيرته الورقات، ولا تفي بحقه الكتب، فماذا أقول، وبماذا أبدأ.
ماذا أقولُ وطرفُ فكريَ كُلّمَا
رامَ المجالَ توسعَ الميدانُ
ولذلك ارتأيت أن أخالف السائد في مثل هذه المناسبات، وأتجنب الحديث عما لايُجْهَلُ عنهُ، محاولاً أن أكشف عن نزرٍ يسيرٍ من المواقف التي عايشتها معه، قاصداً من ذلك تسليط الضوء على جوانب كاشفة من سماته وأخلاقه والتي لا يدركها إلاَّ من اتصلت أسبابه بأسباب الشيخ مجالسةً، وتتلمذاً، ومعايشة، وإني أعلم بأن ذلك قد يُرغِمُ القلم من حيث لا يدري ولا يريد بالحديث عن النفس والحديث عنها لا يَجْمُل ولكن ما حيلتي!:
ما حِيلةُ الرامي إذا
عن قوسِهِ زَلَّ الوتَرْ
علماً أني أرسلتها سوانحاً للذكرى جاءت عفو الخاطر، مطلقاً لها العنان، نائياً بها عن التكلف والتدبيج، علها تكون بذلك أوفق للحال وأقضى للمقال، والله من وراء القصد.
في عام (1405هـ) أهداني أحد الأصدقاء معجم بلاد القصيم بأجزائه الستة لشيخنا الموسوعي محمد العبودي -رحمه الله-، وكنت وقتها شابًا يافعًا قاربت العشرين من عمري، ولم أكن حينها أعرف من هو العبودي، ولا وظيفته، ولكن الكتاب جذبني لما يحتويه من مادة بلدانية، وتاريخية، وجغرافية، وشعرية، ناهيك عن أسلوب الشيخ الجذّاب الشّيق، فصرت أطالع فيه كثيراً، ولم تكن وقتها وسائل التواصل متوفرة بهذا الشكل وإنما الموجود ما هو مطبوع من كتب ومقالات في مجلات أو صحف، أو ما يتناقله الرواة والإخباريون، ولم يكن عندي من كتب الشيخ سوى معجم بلاد القصيم، ومن ضمن ما حرصت على مطالعته في تلك الفترة معجم الأسر المتحضرة في نجد لعلامة الجزيرة حمد الجاسر -رحمه الله-، ولاحظت أنه يعزو كثيرًا لمعجم أنساب القصيم لشيخنا العبودي، وذكر الجاسر أنه مخطوط، فحرصت على اقتنائه.
اللقاء الأوَّل:
في عام (1421هـ) عُيِّنتُ مديرًا لثانوية الملك عبد العزيز (العزيزية سابقًا) ببريدة، وكان من زملائي فيها معلم مادة الجغرافيا الأستاذ عبدالعزيز السليمان العبودي -حفظه الله- وهو: ابن أخ الشيخ، وذات مرة سألته عن شيخنا فأخبرني أنه موجود في بريدة فطلبت أن يأخذ لي منه موعدًا لزيارته، وفي الغد أخبرني أنه أبلغ عمه رسالتي وقال: إن عمي رحب بذلك وقال: بشرط أن أستفيد منه، وأخبرني مكان البيت، وأنه يجلس مغرب كل يوم، وكنت أسمع من قبل أن الشيخ يعمل جادًا على إخراج معجم الأنساب الذي ذكرته آنفًا، فما كان مني إلا أن آخذ معي حوالي عشر وثائق نادرة تخص أسرتنا وغيرها، وذهبت حسب الوصف وبصحبتي ابن العم الأستاذ علي الصالح العلي أبا الخيل، ولما وصلنا كان الشيخ بمفرده فاستقبلنا بحفاوة وتقدير، وكنت متهيبًا من الشيخ لما حباه الله بمكانة علمية وأدبية، علاوة على كبر سنه ومنصبه، والشيخ وقتها يشغل منصب الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي، وهو في الخامسة والسبعين من عمره، إلاَّ أنه كان تام الصحة، متقد الذهن، سليم الحواس، لمّاحاً، سريع البديهة، وبعد تبادل التحايا جلسنا، كان في الوسط وأنا عن يساره وابن العم عن يمينه، ومن طبع الشيخ الذي دأب عليه أن يلاطف زائريه ببعض الحديث والأسئلة عن أعمالهم واهتماماتهم لكي يعرف مستواهم العلمي والثقافي، فيتحدث معهم بما يلائم ذلك المستوى، عرفته بنفسي وكذلك فعل ابن العم، كانت عين(1) الشيخ على الوثائق التي وضعتها على الطاولة، ولسان حاله يقول: يا ترى ما الذي في هذه الوثائق، تنبهت لنظرات الشيخ وأخذت الوثائق وبدأت أقرؤها واحدة واحدة، وكلما انتهيت من واحدة ناولته إياها أعجب بهن وعلق على بعضهن وقال: من أين هذه؟، فقلت من ابن العم فكتب اسمه على أسفلها وقال: سأعزوها لك في المعجم، وكذلك فعل في وثيقة أخرى، سألني هل لديك وثائق أخرى؟، قلت: نعم لدي الكثير، وسأزودك بها -إن شاء الله-، سألني عن أعمالي البحثية؟، أخبرته بأن عندي مبحثين، الأول: في تاريخ القصيم، والثاني: عن الشاعر محمد العوني، ثم أسهب في الكلام عن العوني وأخباره، وذكر بعض المآخذ على من جمع شعره، وقال لي: عندي لك مخطوط لشعره بخط الراوية عبدالرحمن الربيعي، وأردف: سأقدم لكتابك عن العوني إذا انتهيت منه، ولما أردنا الانصراف خرج معنا وقد رفع آذان العشاء، وقال: زوروني غدًا في نفس الوقت، خرجت من عنده تغمرني الفرحة والسرور لمالاقيته من هذا العلم الموسوعي من حفاوة وتقدير، ولما وجدته من سعة علم وتواضعٍ وتشجيع.
كانت مُساءلَةُ الرُّكبانِ تُخبرُنَا
ثمّ التقينا فلا واللّهِ ما سمعتْ
عن جعفر بن فلاحٍ أطيَبَ الخبرِ
أُذني بأحسن مما قد رأى بصَري
أعدنا الزيارة من الغد وأخذت معي بعض الوثائق كما هو الحال في الأمس، ارتاح الشيخ واطمأن أكثر، وتبادلنا أرقام الهواتف، قال: إنه سيأتي إلى بريدة مرة أخرى بعد أسبوعين أو ثلاثة، وسيهاتفني إذا حدد الوقت.
لقاء آخر:
هاتفني الشيخ بعد أسبوعين وأخبرني بموعد القدوم، وسألني عن بعض المهتمين من بعض العوائل هل أعرف منهم أحدًا؟؛ لأنه يريد الكتابة عنهم ويرغب بزيادة معلومات، أخبرته بمن أعرف، وقلت له: سأتواصل معهم وأبلغهم لحضور مجلسك إذا أتيت، استحسن الشيخ ذلك، وفعلًا تواصلت مع بعضهم وأبلغتهم فمنهم من حضر ومنهم من لم يحضر، استمر الوضع على هذا الحال.
التواصل الهاتفي:
كانت المهاتفة بيني وبين شيخنا مستمرة وكثيراً ما يبادر هو بالاتصال، وكانت المكالمات تتراوح من 20 دقيقة إلى 45 دقيقة، ومحور الحديث فيها- بعد السلام والاطمئنان- عن الوثائق، والشخصيات، وتاريخ الأسر، أو في الكتب، أو لطلب التواصل مع بعض الأشخاص ممن يرغب الشيخ بمقابلتهم، كانت المكالمات بيننا أشبه بالعصف الذهني خصوصًا لي أنا، وكنت أحرص على الاستماع منه أكثر، إلا إذا سألني أجبته وكان يفرح إذا أتيت بزيادة علم.
مجالس الشيخ:
كنت أصغي لشيخنا بكل حواسي لضبط ما يرويه وما يذكره من فوائد، وأقيد ذلك إذا خرجت من عنده، وأكتب التاريخ، والوقت، وأسماء الحضور في ذلك المجلس، لقد كان الشيخ آية في الحفظ، والضبط، والنباهة، والبديهة(2).
مهذّبٌ فطِنٌ كادت فراستُه
عمّا بقلبِكَ قبلَ القولِ تُخبرُهُ
فكنت أتهيّب أن أضيف معلومة أو أستدرك عليه، وذات مرة كنا لوحدنا في مجلسه ببريدة وجعل يتكلم في موضوع ما، وفاته بعض المعلومات فأردت أن أضيف ما عندي بطريقة مؤدبة وبأسلوب راق، لأني لا أعلم أثرها على الشيخ، فقلت بلهجتنا الدارجة: (وكلامك موصول يا شيخ)، (وما عقبك حسافة) أي ليس بعد كلامك أسف وندم، ولكني اطلعت على وثيقة فيها كذا وكذا- تخالف ما ذَهَبَ إليه-، فقال بصوت عالٍ: (مِدَّه) وبسط يده اليمنى ليصافحني تأييدًا لما أقول وصافحته، وفعلها مرة أخرى بعد أشهر، ومرة من المرات تحدَّث في موضوع ما، وأردت أن أضيف ما عندي فقلت له بلهجتنا: (العين ما تْعَلى على الحاجب يا شيخ)، وأضفت ما عندي، فقال بكل ثقة واعتزاز: (تْعَلى ونص)، وأشار بإصبعه السبابة على عينه وحاجبه، وذات مرة هاتفني وقال: إني أنهيت الكتابة عن الأسر الذين يحملون مسمى واحداً -وسماها لي- وقال: إن عدد الأسر التي تحمل نفس هذا الاسم كذا وكذا، وجعل يعددهم لي ويذكر شخصياتهم، ولما انتهى قلت: باقي أسرة، قال: ومَن هم؟، قلت: الذين منهم فلان وفلان، قال: لو لم يأت من هذه المكالمة إلا هذه الفائدة لكفى!.
هذا التعامل من الشيخ معي أصبح معززاً ومشجعاً لي أكثر- لأن هذا ممَّا أنتهجه أصلاً- في قبول الرأي الآخر وعدم استهجان آراء الآخرين، بل هي من أهم ما يعتمد عليه في تطوير الذات ورفع المستوى المعرفي والثقافي، ومن أفضل الوسائل في إشعال ذهن الملقي والمتلقي، وهذه الطريقة دأبت عليها مع طلابي، وفي بحوثي وكتاباتي.
بذل المعرفة:
كان الشيخ من الكرماء الأخفياء الذين لا يبخلون، فها هو نثر كل ما في جعبته في بطون هذه المعاجم، وتجشم المتاعب والمشاق، ولم يرد بذلك المادة أو التزلف، وكان شعاره نفع الآخرين، ومن عرف عمله وجِدَّه في حياته العملية عرف ذلك من بدايته وحتى نهاية حياته العملية، سواء العلمية في التعليم الابتدائي، أو المعهد العلمي ببريدة، أو الجامعة الإسلامية، أو حياته العملية في رابطة العالم الإسلامي، وفعله مع الأقليات الإسلامية في العالم. ومن الأشياء الذي لمستها من الشيخ بنفسي أنه في أوّل لقاء بيننا وعدني وأوفى بوعده بمخطوط ديوان العوني بخط الربيعي، ومرة طلبت منه مخطوط ديوان الصغير بخط الشيخ صالح السليمان العمري، فأعطاني نسخة منه، وأعطاني كذلك نسخة من مخطوط في الشعر، جمعـه محمد السليمان الطامي(3)،
وأعطاني نسخة من مخطوطة الشاعر علي بن محمد بن طريخم، وكان فيه نقص فقلت له أن فيها سقط، وفي الجلسة الأخرى جاءني بالأصل وأعطانيه لأطابقه وأصور السقط إن وجد.
فحق فيه قول الأوّل:
عَوَّدتَ نَفسَكَ عاداتٍ خُلِقتَ لَها
صِدقَ الحَديثِ وَإِنجازَ المَواعيدِ
وأذكر أن أحد أبناء العم طلب رقم جوال الشيخ مني فأعطيته إياه ولم أعلم ماذا يريد منه، وبعد أسابيع، قابلت ابن العم، فقال لي: اتصلت بالشيخ وعرفته بنفسي وسألته عن معجم الأمثال العامية في خمسة أجزاء؛ لأنه نفد من الأسواق، قال: فأوعدني أنه سيبحث في مستودعه لعله يجد شيئًا، قال: ثم اتصلت عليه بعد أيام، وقال: مرَّ علي في المنزل في الرياض إذا أتيت، قال: فمررت عليه وأعطاني نسختين وقال: واحدة لك وواحدة لأبي سليمان.
وقدّم لباكورة إنتاجي كتاب: ديوان شاعر بريدة الحماسي محمد السليمان الصغير، وكان بطلب من صديقنا الوفي د. محمد المشوح، وذات مرة لما زرت شيخنا ببيته في بريدة أعطاني ورقتين طويتا على بعض وقال لي بالحرف: هذا تقديم لكتاب شاعر بريدة، خذهما معك إلى البيت واقرأهما، فإن أردت أن أضيف أو أحذف أخبرني، ولما كان من الغد أتيتُ بهما وأعطيتهما إياها بعدما شكرته.
وأما المعاجم والكتب التي أهدانيها الشيخ فمنها: معجم أسر عنيزة(4) في سبعة عشر جزءاً، وفيه إهداء بخطه ووصفني بأوصاف بالغ فيها، ومعجم أسر الرَّس في سبعة عشر جزءاً، ومنها معجم الأصول الفصيحة للأمثال الدارجة في ثمانية مجلدات، ومنها سبعون عامًا في الوظيفة في أربعة مجلدات، وغيرها من كتب الرحلات والكتب المفردة، وذات مرة كنا في بيته العامر في الرياض ومعنا الصديق د. محمد العبد الله المشوح فقال له الشيخ: أي كتاب تطبعه من كتبي أعط أبا سليمان نسخة منه، واخصمه من حقي!، وزياراتي للشيخ في الرياض قلما خرجت منها وليس في يدي شيء من مؤلفاته لي ولمن يصحبني.
سَأَشْكُرُ ما مَنَنْتَ بِهِ وَمِثْلِي
وَأَحْمَدُ حُسْنَ رَأْيِكَ فِيِّ حَمْداً
لأَهْلِ الْمَنِّ فَلْيَكُنِ الشَّكُورُ
يَدُومُ إِذا تَطاوَحَتِ الدُّهُورُ
مركز الشيخ الثقافي:
من صور بذل الشيخ في سبيل الخير أنه مرة هاتفني وأخبرني بأنه تمت الموافقة على فتح مركز ثقافي باسمه في بريدة، وأنه ناوٍ على تبرع قطعة أرض مساحتها ثلاثة عشر ألف متراً تقع شرق بريدة، وأنه سيبني فيها مسجدًا جامعًا باسمه، وكأنه ينوي وضع مكتبته في المركز إن اكتمل.
كرم الشيخ وجوده:
كان الشيخ بي حفيًّا مُكرمًا حسًا ومعنًا، وفي الغالب إذا دخلت مجلسه يرغب أن أجلس عن يمينه، وكثيرًا ما يسند لي الحديث مما يسبب لي حرجًا عند من هم أرفع مني علمًا، وقدرًا، وسنًا، وإذا هاتفني بادر بالسلام ثم السؤال عن الأهل والأولاد، والاطمئنان على الصحة. وذات مرة في مجلسه أخرج نصف تولة من العود الفاخر وفتحها ومدها لي وقال: تطيب منها وطَيّب الإخوة وضعها في جيبك، وفعلها مرة أخرى، ومرة أخرى ومجلسه ببريدة يغص بالباحثين، والمهتمين، والزوار، ولما أذن العشاء قام الحضور للانصراف وقام لتوديعهم وكنت أولهم فمد يده ليصفحني مصافحة الوداع فإذا يده تضع في يدي نصف تولة من دهن العود، دون أن يشعر أحد من الحاضرين. وإذا كنت في الرياض ألح علي في العشاء عنده.
أَرى الكَرَم الفيَّاضَ منك سَجيةً
وكم من كريمٍ جودُه عن تَكرُّمِ
ومرة ألح علي بالعشاء عنده، وطلب أن أحضر الأولاد والأعزاء الذين في الرياض، ولما حضرت كان معي ابني الأكبر سليمان فقال لي: أين البقية؟، ثم عاتبني، فأخبرته بأن لهم أعذار تمنعهم، وبعدها بمدة عزمني مرة أخرى وطلب أن أحضر الأولاد، فاصطحبت أولادي سليمان، ونايف، وخيّال، وعبد الإله ولم يتخلف منهم إلا الملازم يزيد وكان مرابطًا في الجنوب على حدود اليمن، وجدنا الشيخ في استقبالنا بحضرة ابنيه خالد وطارق، وكان محور الحديث في جلستنا بالأمور العامة، وتكلم كل منا بكل أريحية وبساطة وكأنها جلسة عائلية تضم الكبير والصغير بمختلف مستوياتهم الثقافية، والمعرفية، والتوجيهية، تبيّنت أن شيخي تحدث بما يلائم ويناسب الحضور، وهذا من جم أدبه وإلماحه، وبعد وجبة العشاء التقطنا صورًا عائلية جماعية تذكارية، ومن غريب الموافقات أن واحدًا من أبنائي وهو الملازم يزيد وواحدًا من أبناء شيخنا وهو المهندس ناصر قد تخلفا عن الحضور.
لمحة من إيثاره:
من الصفات التي تميز بها الشيخ الإيثار، من ذلك أنه لا يبخل بأي معلومات يُسأل عنها فيجيب بكل شفافية وصراحة دون بتر أو إلغاز، وكان من دأبه توجيه الباحثين، وحثهم على البحث والتأليف، واقتراح بعض المواضيع الجديرة بالبحث.
كنت أحرص على تزويد الشيخ بصورة أي وثيقة نادرة قديمة أحصل عليها، والطريقة المتبعة أقرؤها عليه في المجلس ويشرح عباراتها ومفرداتها، وأحيانًا أقرأها عليه مهاتفة، ويفرح بمثل هذه النوادر، وذات مرة قال لي: عندي لك اقتراح، قلت: وما هو؟ قال: هذه الوثائق النادرة التي كُتبت قبل عام (1200هـ) وتخص منطقة القصيم، لو جمعتها وشرحتها فإن فيها فوائد كثيرة. كان الشيخ يجمع لمعجم في شعراء بريدة وكنت أحضر أسماء بعض الشعراء مع تعريف بهم ونماذج من أشعارهم، وفي كل جلسة آتي بمجموعة لا بأس بها، وذات مرت، قال لي: يا بو سليمان لو تخرج معجم الشعراء أنت، فدعوت له وشكرته، وقلت له: كون المعجم يخرج باسمك أفضل، وأكثر انتشارًا، وقد استشارني الشيخ مرتين في اختيار عنوانٍ لذلك المعجم، وهل يكون في العامي فقط، أو في العامي والفصيح؟
همة الشيخ ودأبه:
كان الشيخ ذا همة عالية منقطعة النظير لا يجارى ولا يمارى بالنسبة لمن هم في سنة، قال لي مرة مهاتفة بعد أن سألني عن عملي في البحث: والله لو تجلس كل يوم من الساعة السابعة صباحًا وحتى الحادية عشر مساءً!! لأنهيت بحثك خلال شهرين أو ثلاثة، ومرة قال لي: لا تستصعب ولا تستحقر مواضيع البحث، اكتب عناصر أو مواضيع البحث في وريقة بقدر اليد وبسط يده اليسرى وأشار بأصابع يده اليمنى كأنه يكتب، قال: ثم ضع تحت كل موضوع ما يخصه من معلومات فما تلبث إلا أن يصبح بحثًا مكتملًا، ومن همته وحرصه أنه يقيد الفوائد، وأحيانًا إذا أوردت أبياتًا شعرية وغيرها من المعلومات طلب مني تدوينها له.
لطف الشيخ وطرافته:
كان الشيخ عذب المنطق حلو الحديث يجذب الحضور والسامع بطرحه الشَيّق، ومن استمع إلى مشاهد ورحلات والذي يعده د. محمد المشوح أدرك ذلك من أول وهلة، وزيادة على ذلك فإن الشيخ صاحب طُرفة أذكر أنه مرة قال لي: كل بيت يبتدئ باثنين وينتهي باثنين إلا أنت يا أبا سليمان فإنه مبتدئ باثنين وسينتهي بثلاثة، قال ذلك لأن عندي زوجتين، وما أكثر ما يورده الشيخ من المواقف والحكايات الطريفة ومن شاهد بعض المقاطع المسجلة في اثنينيته في الرياض، أو في بيته ببريدة شاهد مثل تيك المواقف.
وكثيرًا ما يحدثني الشيخ بنوادر الأخبار والفرائد والفوائد، وأحيانًا يسوقها بإسنادها، وبعضها أوردها في كتبه وبعضها غير مدون، ولعلي أنشط أجمع ما حدثنا به مما لم يدونه.
وفي الأخير أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتغمد شيخنا بواسع رحمته، وأن يمطر عليه من شآبيب رحمته، وأن يجعله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وصلى الله على نبيّنا محمد.
* * *
(1) الشيخ يُبصر بعين واحدة، والثانية يعلوها البياض، ولا يبصر بها، لذا تأثر في آخر ثلاث سنوات من عمره، وآلمته عينه السلامة من كثرة المطالعة والكتابة، فأوصاه الطبيب بعدم القراءة والكتابة، فحزن الشيخ لذلك.
(2) لا أدعي هنا أنه معصوم من الوهم، أو لا يفوته بعض الشيء مما هو من طبيعة البشر.
(3) أعارني شيخنا- رحمه الله- أصل المخطوط لقراءته ونسخه ما يقرب من عشرين يوماً، وهذا ملمح نادر في شخصيته لايكاد يُعرَف، وصورة من أرقى وأدل صور البذل والسخاء في سبيل العلم والمعرفة ونشرهما.
(4) مما أذكره عن هذا المعجم قبل طباعته أن شيخنا- رحمه الله- أعارني مسودة الجزء الأول ورغب إليَّ أن أطلع على ماكتبه عن أسرة أبا الخيل- ثقةً وتفضلاً منه- على أن أعاوده بعد قراءتها للنقاش والمباحثة وهو ما حدث فعلاً، فقد رجعت إليه بعد يومين في جلسة خاصة ومعي بعض الملاحظات التي أبديتها له فسرَّ بها ورحّب- كما هي عاداته- وكان العزم بيننا معاودة هذا الصنيع في معاجمه القادمة كمعجم أسر البكيرية، ومعجم أسر البدائع، ومعجم أسر شمال القصيم، لكن المنية كانت أسبق.
** **
عبدالله بن سليمان بن صالح أبا الخيل - القصيم - بريدة