حسن اليمني
بعد قمة جدة للأمن والتنمية التي انتهت قبل أيام تسابقت وسائل الإعلام في العالم كله تبحث وتحلل وتسرّب ما تيسّر لها من معلومات, وكل ذلك لقراءة الحدث باعتباره عالمياً تاريخياً كان عماده وعنوانه هو المملكة العربية السعودية.
لم تعد المملكة العربية السعودية تلك البئر النفطية أو الأماكن المقدسة أو السوق الاستهلاكية أو أسفنجة تناقضات القضايا الإقليمية والاقتصادية, بل أصبحت الرقم الصعب في العالم كله, بل وتكاد تكون بوصلة مساره وإيقاع حركته, وبالتأكيد لم يحدث ذلك صدفة أو تفضلاً من أحد, ولم يكن ذلك حتى أمراً مستجداً في حقيقة الأمر بل كان حاضراً ومدركاً منذ أمد بعيد لكن المستجد في واقع الحال هو الإقرار والاعتراف بهذا الدور من قبل العالم كله بما فيه الخصم وحتى العدو قبل الشقيق والصديق على حد سواء, وهذا هو تميّز العظماء.
قمة جدة للأمن والتنمية التي جمعت الرئيس الأمريكي جو بايدن وحكام دول مجلس التعاون والعراق والأردن ومصر سبقتها تكهنات من قبل المتابعين والمراقبين إلى درجة أن تم تحديد الغايات والأهداف وربما سبقوا القمة حتى قبل انعقادها ليعلنوا نتائجها, لكنها انتهت بنتائج تبيّن أن لا علاقة لتلك القراءات والتكهنات بحقيقة مضمون همّ الانعقاد وغاياته, قيل إنها قمة تشكيل ناتو شرق أوسطي يضم الكيان الإسرائيلي وقيل إنها تمهيد لتطبيع مزعوم بين المملكة والكيان وقيل لزيادة إنتاج النفط لصالح الإستراتيجية الأمريكية وقيل وما أكثر ما قيل لكن شيئاً من ذلك لم يكن أبداً له وجود في ختام تلك القمة, بل إنه كان بعكس ما قيل من تكهنات وتحليلات بشكل تام.
تحولت وسائل الإعلام العالمية فور نهاية القمة من تلك التكهنات والتوقعات إلى إقرار واعتراف موحد من كافة وسائل الإعلام العالمية شرقاً وغرباً في أن المملكة العربية السعودية هي الحدث الأهم والعلامة العالمية لحركة ومسار الأحداث في العالم, يكاد يكون هذا القول مبالغة لو لا أنه حقيقة تلجم لسان كل من تمنى صدق تلك التكهنات والتحليلات أو جزء منها أو شيء ولو ضئيل يمكن أن يدعمها أو يقلل من حقيقة الحدث.
اليوم أصبح الحديث عن 18 اتفاقية تمت بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية حسب ما أظهرته كثير من وسائل إعلام ليست سعودية ولا عربية بل أجنبية في الشرق والغرب لا تميل في الغالب للحياد لكنها أصبحت تتحدث عن إقرار حق المملكة العربية السعودية في تخصيب اليورانيوم كما هو متاح لإيران في الاتفاق النووي مع أمريكا وأوروبا سواء بسواء, وتتحدث عن استعادة المملكة العربية السعودية لجزرها في خليج العقبة (تيران وصنافير) دون أي التزام بما جاء في اتفاقية (كامب ديفيد) بين مصر والكيان الإسرائيلي برعاية أمريكية بل وإخراج كافة قوات حفظ السلام المتواجدة هناك قبل 1-1-2023م, وكذلك تتحدث عن خيبة أمل الكيان الإسرائيلي من هذه الاتفاقيات التي تجاوزته ولم تأبه بتحفظاته أو رغباته أو محاولات قبض أثمان سياسية لإنجاز كهذا لبعث الروح في ما سُمي إعلان القدس بجذب دول عربية أخرى للانضمام, وهو ما مثل سقطة موجعة للكيان وحتى أمريكا نفسها.
في ما يمس القضية الفلسطينية فلم تخلُ كلمة أي زعيم عربي تحدث في قمة الأمن والتنمية عن التأكيد على الموقف العربي الموحد في المبادرة العربية وكان واضحاً التباين والاختلاف في الموقف بين الجانب العربي والجانب الأمريكي في هذه المسألة, بمعنى أن كل التكهنات والتخمينات الافتراضية السابقة لتلك القمة والتي راح بعضها يلمح أو يصرح عن مزاعم في أن القمة إنما عقدت لإنشاء حلف عسكري عربي مع الكيان الصهيوني, وهو أمر لا يمكن إنكار جدية طرحه في نهج ما سُمي بصفقة القرن وصناعة الدين الإبراهيمي, إلا أن الموقف العربي في القمة أظهر أن هذا مسار مرفوض لا يمكن قبوله على حساب القضية الفلسطينية وحق شعبها العربي المسلم والمسيحي في العيش في دولته المستقلة وعاصمتها القدس كما جاء في المبادرة العربية وأكده أكثر من زعيم عربي في قمّة جدة على مسمع ومرأى وحضور الرئيس الأمريكي لينسف تلك المزاعم والادعاءات ويكشف خطأها.
وفي ما يمس زيادة إنتاج النفط حسب الرغبة الأمريكية في صراعها مع روسيا الاتحادية في أوكرانيا فلم يظهر أي تغيّر في الموقف السعودي وهو ما خيّب آمال كثير من المهووسين بالانصياع والخضوع للمطالب الأمريكية ولو على حساب مصالح بلدانهم, والحقيقة في كل الأحوال أن نتائج هذه القمّة كانت أكثر من رائعة للمصلحة العربية والسعودية بوجه خاص بل إنها أعادت الولايات المتحدة الأمريكية للواقع الحقيقي بعيداً عن أوهام تهميش حيوية المنطقة العربية وأهميتها.
أخيراً لابد من التذكير أن قمة الأمن والتنمية في جدة لم تكن القمة الحدث الأهم بل سبقتها أيضاً قمة الرياض حين حضر الرئيس السابق ترامب إلى الرياض لحضور قمة جمعت زعماء العالم الإسلامي, قمة لم تكن أقل أهمية في رسم خريطة حركة ومسار الأحداث في العالم, إلا أن قمة الأمن والتنمية في جدة حققت مكاسب إيجابية حقيقية للمنطقة العربية, ولهذا ليس في هذه السطور مبالغة ولا افتراء مكانة غير مستحقة للمملكة العربية السعودية من كاتب سعودي ولكن إقراراً واعترافاً عالمياً ودولياً على هذه المكانة المتميزة على خارطة العالم يعجز حتى الغباء عن إنكاره.