عندما تُطلُّ على واحة غنَّاء... تحيط بها أشجار النّخيل المثمرة وأشجار الزّينة المتعدِّدة... وتسمع أصوات الطيور من كل صنف ولون وجمال الطبيعة من كل حدب وصوب فإن لسانك سيعجز عن لمِّ شتات كلماتك المبعثرة... وعن حمل مشاعرك الغامرة... وعندئذٍ يقف اللِّسان حائراً.
وعندما تشاهد السَّحب الكثيفة تجوب السَّماء وترى البرق يخطف البصر وتسمع صوَّت الرعد مدوياً في أجواء السَّماء وحبات المطر أخذت تنهمر إلى الأرض بطريقة متواصلة فإنك عند ذلك ستشعر بأن الكلَّمات سوف تتلاشى... والأحرف سوف تضطرب... عندئذٍ يقف اللِّسان حائراً وعندما تقف وقفة متأمل متفكر الى لون الشَّمس الممتقع وهي تلقي على الأرض من حولك بنظرة وداع صفراء... وتنظر الى كثبان الرِّمال والجبال والهضاب والسهول... وقد توزَّع شعاع الشَّمس الباهت عليها مكوناً أجمل منظر يمكن أن تراه العين... فإنك ستشعر بنشوة الإعجاب... وبانكسار الحزن وأنت تشاهد منظر وداعٍ رائعٍ يحدث أمام عينيك... عندئذٍ يقف اللِّسان حائراً.
عندما تجلس أمام الشَّاشة الذهبية (للرائي) تستعرض ما يجري في أرجاء المعمورة من سباق على الحياة... ومن حروب ودمار وصراع على لقمة العيش... وترى الصراع يمتد على كرسي القيادة... ثم تستمَّر في مشاهدة تلك المناظر الرهيبة وذلك من خلال جثث الأبرياء المتناثرة... ووسائل الدَّمار التي تتسابق على تمزيق الأشلاء... وتشاهد آباء يستنجدون... وأطفالاً يبكون... وأمهات وجوههن لوحة قاتمة من هذا الزمن الرَّهيب... عند ذلك ستشعر بالألم والحزن وخيبة الأمَّل... وقسوَّة الطغاة والجبابرة وعندئذٍ يقف اللَّسان حائراً.
عندما تتكالب عليك الأوجه السوداء فالخلافات تبرز معادن هؤلاء من ناحية الحقد والحسد والضغينة فإنك لا تنزعج من سطوة الباطل وإن كثر اعوانه فهو ذليل أمام الحق وإن كان وحده فإن أكثر الحقائق تضيع بين كاذب، ومبالغ، ومنافق عند ذلك ستشعر بان أعمال المخلصين من الناس لها رنين يملأ آذان الأوفياء دون سواهم فالسماء لا تبكي على أحد وأن جرت الأرض أنهاراً بمائها – فإن حقوق المرء شعرة يرفعها وعندئذٍ يقف اللِّسان حائراً.
عندما تمضي بك الأيَّام... وتتغيُّر ملامح الحياة من حولك... ثم تتفتح عينيك ذات يوم فلا تشاهد بجوارك إلا أخو عدواً لك... فإنك تذهب مذعوراً في كل مكان... ثم تراه ولا تكاد تفرح برؤياه يلفحك منه هواء يخالطه غبار كثيف... ويدب في أوصالك من أقواله برودٌ وفتوراً... وتقلِّبه على كل الوجوه فلا تجد منه إلَّا نكراناً للجميل... وجحوداً للحب... وكفراً بالأخوَّة فإنك ستشعر بضآله الحياة وفظاعة النكران... عندئذٍ يقف اللِّسان حائراً.
عندما تبحث عن ابجديات الأخلاق – فعليك يا أخي الكريم أن لا تبحث عن أخلاق الرجال داخل المساجد وفي ميادين العبادة أو في ساحات الذكر فقط فعليك أن تبحث عن هؤلاء في تنفيذ عقود الالتزامات وفي مجال البيع والشراء وفي كتابة الحقوق وفي توزيع المواريث وفي أداء الأمانات وفي مجال الخصومات – فالخصومات تفضح متصنعي الأخلاق... عندئذٍ يقف اللِّسان حائراً.
وعندما يتفاعل ضوء البدر مع ظلمة اللَّيل فإنك ترى من ذلك سواداً ممزوجاً ببياض وتشعر أنك أمام لوحة رائعة من الجمال رسمتها أنامل النجوم ووزعت ألوانها... ثم ذهب بك الخيال بعيداً كل البعد فتشعر أنَّك من اللَّيل في واحة... لها من حفيف الأشجار إيقاع جميل... ومن هبَّات النسيم أنفاس دافئة... ومن عبق الأزهار والورود عطر ساحر أخَّاذ... فإنك ترى نفسك ممتطياً حصان اللَّيل الأدهم... وهو يجوب بك آفاق الكون الفسيح فترى أمرك كالورقة... في مهب الرِّيح كحبة الشَّعير الصِّغيرة في الفضاء الفسيح... فإنك ستشعر بضآلة المرء المتجبَّر أمام هذا الكون الواسع... وعندئذٍ يقف اللِّسان حائراً.
عندما يستجمع المرء أفكاره ويراجع أعماله فإنه... يجنح إلى الصمت حينما يبصر بنفسه ويرتب ذهنه فإنه يفر من البيئة الصاخبة إلى ريف صامت... عندئذٍ يقف اللِّسان حائراً.
عندما يتطاول النقاش والجدال والحوار أحياناً فإن النبرات المتباينة بين مرحب وسعيد وفرح بهذا وبين معارض ورافض وبين راغب في توظيفها للإساءة – ضمّن عمل مسيَّس ومدروس... عندئذٍ يقف اللِّسان حائراً.
قال الشاعر الحكيم:
يموت الفتى من عثرة بلسانه
وليس يموت المرء من عثرة الرجل
والحوار المرتكز على الاحترام والتقدير والنقاش الهادئ القائم على الحب والثقة... سواء في حياتنا الأسرية أو الاجتماعيَّة لأن الرؤى تختلف والثقافات تتنوع فإذا اجتمعت تحت سقف واحد فليس من الشرط أن تتفق وليس من لازم الحال أن تتوافق، بل إن في اختلافها وتباينها في كثير من الأحيان مزيد علم، وزيادة إدراك عندئذٍ يقف اللِّسان حائراً.