م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1. الحداثة فعل متحرك متغير متطور غير ثابت.. وحالما يَثْبُت الفكر أو السلوك الحداثي يتحول إلى فكر أو سلوك تقليدي.. أيضاً التقليدية ليست أمراً واحداً محدداً بل هي أمر تُقَلِّد فيه أمراً آخر.. ذلك الأمر الآخر قد يكون في حينه فعلاً حداثياً لكنه مع ثباته تحول إلى تقليدي.. واتِّبَاعه يعني أنك تقليدي.. فكل فعل في وقته هو فعل حداثي لكنه يتحول مع الزمن إلى تقليدي إذا ثبت ولم يتطور.
2. أقرب وصف للحداثة هو ما قاله الفيلسوف الألماني (يورغن هابرماس) أنها «مشروع لم يكتمل».. والحقيقة هي أنه مشروع لا يكتمل.. فكيف تكتمل الحداثة؟ فلو اكتملت لتوقفت ولو توقفت لم تتقدم والذي لا يتقدم يتقادم.. وهذه هي التقليدية.
3. الحداثة كما يصفها المفكر المغربي (محمد سبيلا) هي مشروع.. وهي في كل حالاتها شروع في بداية جديدة.. وهذا المشروع لو اكتمل لم يعد حداثياً.. لذلك فالذين يبحثون عن الغاية أو المصير النهائي للعملية الحداثية ذاتها يبحثون عبثاً.. فالحداثة في نقطة ما غير الحداثة في نقطة أخرى أو زمان آخر أو مكان آخر.. إنها في كل أحوالها بدايات دائمة متجددة.. فليس هناك حداثة واحدة بل حداثة تلد أخرى وهكذا.. فالحداثة عملية لا تتوقف.. كما أن الحداثات الوليدة لا تكبر ولا تكتمل وإنما هي حركة كونية مفتوحة تتوالد وتشيع وتنتشر.. من هنا فلا يمكن وصف الحداثة بصفة واحدة بل يمكن القول إنها «مسارات مفتوحة» غير منتهية أو منجزة.
4. أيضاً يرى (محمد سبيلا) أن دخول الحداثة في خصومات مع التقليد والتراث يحولها إلى أيديولوجيا وهذا بدوره يحولها إلى تقليدية.. هذا إضافة إلى أن الحرب بين أنصار الحداثة وأعدائها خلطت الحابل بالنابل.. فلم يعد واضحاً الفرق بين الخصوصي والكوني أو العلمي والأيديولوجي.
5. الحداثة تمس كل شؤون وشجون الحياة وحالاتها وشخوصها.. ومن ذلك الحرية، والعقل، والإبداع، والدين، والمرأة، والسلوك والتفكير ونتاجهما من ثقافة وعادات وتقاليد.. الحداثة ليست أمراً مقتصراً على شيء أو أشياء محددة إنها أمر مطلق.. وغير أنها أمر مطلق هي أيضاً أمر شخصي.. فلكل منا حداثته وفق رؤيته وتربيته وقدراته وتأثير محيطه وثقافته.
6. المناوئون للحداثة من العرب يهاجمونها من منطلق أنها أوروبية المنشأ وهم العدو التاريخي.. فعلينا معاداة الحداثة من هذا المنظور! الأمر الذي فاتهم أن الحداثة هو أمر إنساني ليس مرتبطاً بمجتمع دون آخر.. وأن رفع راية الخصوصية في مواجهة الحداثة الغربية هو محاولة غير بريئة تريد أن تمرر أمراً غير مستساغ شرعاً وعقلاً.. فإدخال الخصوصية كمبرر لرفض الحداثة يعد استغلالاً أيديولوجياً بحتاً.
7. الحداثي الذي لا يقبل إلا نوعاً واحداً من الحداثة مثل التقليدي الذي يرفض الحداثة بكل أشكالها.. فكلاهما تقليدي مهما اتصف الأول بالحداثة.. فالحداثة الحقة لا تَقْبل بصورة واحدة تراها مرجعاً لها.. هذا الأمر يحول الحداثة إلى أيديولوجيا ثابتة وأي انحراف عنه يعد انحرافاً عن سراط الحداثة المستقيم ويحتاج إلى تطهير.
8. أخيراً.. مصطلح «ما بعد الحداثة» هو مصطلح ملتبس، إذا كيف يكون هناك شيء اسمه «ما بعد الحداثة» إذا كانت الحداثة كما يُعَرِّفها فلاسفتها هي مشروع «لم يكتمل».. فلو اكتمل لأصبح تقليدياً.. فكيف ينشأ مشروع ما بعد الحداثة؟! إنه أمر ملتبس المعنى لأنه يتصادم مع القاعدة الأولى التي تقضي بأن الحداثة فعل مستمر متحرك لا يتوقف إلا إذا توقف الزمن.. فمصطلح «ما بعد الحداثة» يُظْهِر الحداثة على أنها شيء من الماضي الذي توقف.