عبدالوهاب الفايز
8 مليارات نسمة تقريبًا يعيشون بمختلف أرجاء العالم في بداية عام 2022، كما تشير التقديرات الدولية، يشكلون أممًا وشعوبًا متعددة تختلف أديانها وألوانها وقيمها وعاداتها ولغاتها، التي تشكلت على مر الأزمان ومتغيرات الحياة. وهذا الأمر يعد حكمة ربانية أوجدها الله عز وجل الذي يقول في محكم كتابه {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } (118) سورة هود.
هذه الأرض ليست ملكًا خاصًا لشعب أو أمة محددة على حساب الأمم الأخرى، بل إنها للجميع ليسعوا في مناكبها وليعمروها لخير البشرية جميعا. لذا، ولتحقيق هذه الغاية ولكي يتعاونوا ويتعايشوا بسلام يجب على كل فرد احترام الآخر والكف عن فرض قيمه ومبادئه على الغير، وان ينطلقوا لبناء الشراكات من القواسم والمصالح المشتركة التي تجمعهم.
هذا الأمر لخصه محتوى إجابة سمو ولي العهد، يحفظه الله، على ما أثاره الرئيس بايدن بخصوص القيم الأمريكية. حيث رد سموه، كما جاء على لسان مصدر مسؤول، إن «كل دول العالم وبالذات الولايات المتحدة والمملكة لديهما العديد من القيم التي تتفق بشأنهما وعدد من القيم التي نختلف فيها، إلا أن القيم والمبادئ الصحيحة والجيدة دائماً ما تؤثر على شعوب الدول الأخرى بالذات في الوقت الذي نرى فيه ترابطاً بين شعوب العالم بشكل غير مسبوق. في المقابل فإن محاولة فرض هذه القيم بالقوة لها نتائج عكسية كبيرة كما حدث في العراق وأفغانستان والتي لم تنجح فيها الولايات المتحدة، ولذا فإن من المهم معرفة أن لكل دولة قيماً مختلفة ويجب احترامها، ولو افترضنا أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تتعامل إلا مع الدول التي تشاركها القيم والمبادئ 100 في المائة، فلن يبقى للولايات المتحدة من دول تتعامل معها سوى الناتو، ولذا يجب علينا التعايش فيما بيننا رغم الاختلافات التي نعيشها».
موضوع القيم وما يحيط بها من إشكالات سوف يبقى حاضرا في أولويات أجندة السياسة الخارجية الأمريكية ما بقيت الإدارة الديمقراطية، فالحزب متبني بقوة ضرورة نشر القيم الأمريكيه بنسختها الليبرالية المتطرفة التي تجد المعارضة القوية حتى داخل أمريكا. والحزب الديمقراطي في السنوات الأخيرة شهد تبدلاً قوياً في قياداته ورموزه. فلم يعد ذلك الحزب الذي عرف قيادات تعمل على تلبية المصالح والاحتياجات الأساسية للطبقة الوسطى الأمريكية التقليدية، وركز اهتمامه على القضايا العرقية وحقوق الشاذين جنسيا والحريات الفردية، وغيرها من القضايا الخلافية المتفجرة. وقيادات الحزب ومناصريه عندما يتبنون هذه القضايا ففي ذهنهم القيم الغربية، فهي المعيار الذي يُستخدم للقياس والتعريف وتجاهل تام لما لدى الآخرين من قيم وتراث.
لذا كان مفيدًا ومهمًا أن يأتي رد سمو ولي العهد ليوضح للجانب الأمريكي موقف قيادة المملكة وشعبها من موضوع القيم الذي تتبناه أمريكا في سياستها الخارجية. فكل الذي تريده المملكة هو أن يتفهم ويحترم الأصدقاء الأمريكان قيم ومبادئ الدول التي يتعاملون معها. وسمو ولي العهد أوضح أن فرض القيم على الشعوب أمر خطير على المجتمع الدولي، ويؤدي إلى نتائج عكسية، كما حدث في أفغانستان والعراق، فاحتلال البلدين كان مبرره بناء الديمقراطية وتحقق الرخاء والتقدم للشعبين، والنتيجة: فشل مشروع فرض الديمقراطية، وخسارة إنسانية كبيرة للشعب الأمريكي ولشعوب الشرق الأوسط!
فرض القيم الغربية على الشعوب في الشرق كلمة حق يراد بها باطل، ومن يعرف التاريخ الغربي وحقبة الاستعمار والدمار للشعوب يرى أثر الاستعمار المدمر مستمر منذ ثلاثة قرون على شعوب إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية. شعوب هذه القارات تتخلف الآن بسبب تدمير مقومات أمنها واستقرارها. فبذريعة نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان تمت سرقة الثروات البشرية والطبيعية، ونهضة أوروبا وأمريكا الصناعية تحققت من هذه الثروات المسروقة، وشكرًا للإعلام الغربي الذي ينشر على استحياء صورة من حقبة الاستعمار البغيض، وآخر هذه الموضوعات الإعلامية ما نشرته صحيفة النيويورك تايمز حول معاناة الناس في هاييتي الذين ما زالوا يدفعون ثمن حريتهم حتى أيامنا هذه. (النيويورك تايمز - جذور بؤس هايتي: تعويضات المستعبدين، 20مايو 2022).
تأكيدات سمو ولي العهد المتكررة على أهمية احترام قيم الشعوب وعدم التدخل فيها هو رسالة تطمين للشعب السعودي على ثبات بلادنا على القيم الأساسية التي قامت عليها، فهذه لا يمكن التساهل فيها والمساومة عليها. وأيضًا رسالة تؤكد وتوضح لمن يريد فرض هذا الأمر في أجندة العمل الدولي، إن هذا الجانب له آثارة الخطيرة الممتدة على أمن الدول، لذا الشعوب ذاتها لن تتساهل في الأمور الوجودية المهددة لبقائها واستقرارها.
الجهود الحكومية للتصدي للأجندات الغربية المبذولة من الدول منفردة أو من منظمات الأمم المتحدة المخترقة من جماعات الضغط المهتمة بنشر القيم الغربية الليبرالية المتطرفة، تتطلب مساندة من مؤسسات وجمعيات المجتمع الأهلي العربي لمؤازرتها. هذا الأمر يهمنا الآن لكون عالمنا يشهد حاليًا ثورة ليبرالية ثقافية وفكرية متطرفة يقودها الغرب وتقوم على مبادئ مثل: تعظيم الحرية الفردية المطلقة بكل أمور الحياة، بغض النظر عمَّا يراه غالبية المجتمع. هذه الحركة لها منظروها ورموزها الإعلامية والثقافية، ولها مناصروها داخل هيئات الأمم المتحدة المتخصصة، وداخل الحكومات والأحزاب الغربية من السياسيين الانتهازيين الذين يستثمرون قوة وجود اتباع هذه الثورة الجديدة في المؤسسات الإعلامية والثقافة ومنصات التواصل الاجتماعي وتجار الإعلام الهابط.
العالم العربي والإسلامي وأغلب شعوب الأرض ترفض هذه الثورة وتقاومها وتعرف مدى خطورتها على (بنية الأسرة وتماسكها) واستقرار المجتمعات، فهي مصدر خطر على أمنها الوطني. ولن تتنازل الشعوب عن قيمها ومبائها التي تؤمن بها بتاتاً، حتى لو هلكت دونها، كما قال المثل الإفريقي «الأسد حتى وإن كان جائعاً، فإنه لا يأكل عشبا». القيم ليست سلعا تستورد وتصدر، بل هي أسس راسخة متجذرة في وجدان الشعوب.