بَعّدْتُمْ عَنْ العَيْنِ فَاِزْدَادَ حُبُّكُمْ
وَغِبْتُمْ وَأَنْتُمْ فِي الفُؤَادِ حُضُورٌ
ما من شك أن غياب العلماء والصالحين والأدباء، ومن كان في حكمهم من الأقارب والأحباب مُؤلم ومُحزن تبقى آثاره مُقِيمةً في شعاب النفس، ولقد كان لغياب الشيخ الكريم بالغ الأثر؛ الذي انتقل إلى رحمة الله يوم الأربعاء 7-12-1443هـ، ثم أديت الصلاة عليه بعد عصر الخميس في جامع الجوهرة البابطين شمال الرياض، ثم حمل جثمانه الطاهر إلى محافظة حريملاء، حيث وُورِيَ في ثرى مقبرة «صفية» بعد ما أستوفى نصيبة من أيام الدنيا:
وكُلُّ مُصِيبَاتِ الزَّمَانِ وَجَدْتُهَا
سِوَى فُرْقَةِ الأَحْبَابِ هَيِّنَةَ الخَطْبِ
ولقد كانت ولادته في حريملاء بتاريخ 11-11-1354هـ، في مزرعتهم المسماة «مربحة»، ونشأ مع أبويه وإخوته في بيت علم وفضل، وكف بصره وهو في سن السادسة من عمره، وبدأ في حفظ القرآن الكريم على يد والده الشيخ إبراهيم بن عبدالله المشعل، ثم درس بالكُتّاب لتحفيظ القرآن الكريم لدى الشيخ المقرئ محمد بن عبدالله الحرقان حتى أتم حفظ القرآن الكريم كاملاً، وهو في سن الرابعة عشر من عمره، وكأن لسان حاله حينما أتم حفظ كتاب الله أن يشكر الله على أن عوضه عن فقد بصره أن من عليه بحفظ كتابه متمثلاً بهذين البيتين:
إن يأخذ اللهُ من عينيَّ نورَهما
فإن قلبي مُضِيءٌ ما به ضررُ
أرى بقلبِيَ دُنيايَ وَآخرَتِي
وَالقلبُ يُدرِكُ ما لاَ يُدرِكُ البَصرُ
بعد ذلك انتقل إلى الرياض لطلب العلم لدى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية - آنذاك - بمسجده بحي دخنة، وعلى شقيقه فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم في حلقات تلقي العلوم - رحمهم الله - وسكن مع طلاب العلم بحي دخنة في أحد البيوت التي أعدها الملك عبدالعزيز لطلاب العلم المغتربين عن أهليهم - تغمده المولى بواسع رحمته وفضله - وكان في تلك الفترة إماماً لبعض عوائل الأسرة الحاكمة الكريمة، وقد حظي بتقدير كبير منهم، بعد ذلك التحق بالتعليم النظامي في المعاهد العلمية بالرياض، ثم رغب في الانتقال إلى الأحساء لإكمال الدراسة في المعهد العلمي هناك، وليتفرغ لطلب العلم والتركيز فيه بعيداً عمَّا قد يشغله، وعاد بعد فترة لإكمال مشواره التعليمي حيث التحق بكلية الشريعة بالرياض حتى تخرج منها عام 1384هـ، وبعد ذلك تم تعيينه معلماً في منطقة عسير، فاستضافه أميرها تركي بن محمد بن ماضي ورحب به هو وزميله حمد البابطين - رحمهم الله - وكان محل تقدير واحترام من الجميع هناك..، وبعد قرابة العامين انتقل إلى المزاحمية ومكث فيها ثلاث سنوات، وبعدها تم نقله إلى الرياض في متوسطة الإمام الشافعي حتى نهاية عام 1401هـ، وفي عام 1402هـ، انتقل إلى متوسطة وثانوية حريملاء التي كنت مديراً لهما، وقد سعدنا باِنْضِمامه لنا في المدرسة، حيث كان نعم المربي والناصح والموجه إلى أن تقاعد عام 1414هـ، حميدة أيامه ولياليه. وقد توطّدت العلاقة مع أبي محمد - رحمه الله - حين قدومه إلى حريملاء حيث نتبادل الزيارات، وكان فترة الإجازات الصيفية يتم توجيهه للدعوة والإرشاد في منطقة عسير، فيقوم بهذه المهمة على أكمل وجه محتسباً الأجر والمثوبة من الله عز وجل، وأذكر أننا قمنا بزيارته في صيف عام 1404هـ، في مقر إقامته في أبها، وقام بإكرامنا والتجول بنا في هاتيك المصايف الجميلة، وكان أثناء عمله في حريملاء إماماً لمسجد الشيخ محمد بن ناصر الجماز، كما أنه يقوم بإلقاء خطب الجمعة في حال الإنابة أو عند عدم حضور الخطيب لظروف طارئة، وكذلك خطب الأعياد والمناسبات، حيث إنه متمكن من زمام الفصاحة والبلاغة، وكل ذلك يكون ارتجالاً..، كما أن له مشاركات في النشاطات الدعوية والدروس العلمية والمحاضرات، وله اهتمامات عدة في التاريخ والأدب..، وكان يتصف بالحكمة والرأي السديد يشارك بجاهه في حل كثير من الأمور..، وكان محباً للبذل في أوجه البر والإحسان، كماكان محل تقدير من أسرته، وله دور كبير في تبني تأسيس وقف «قصر المشعل» بمحافظة حريملاء، وغير ذلك من عمل دؤوب سعى فيه إلى تقوية أواصر المحبة والتواصل بينهم جميعاً - تغمد الله الشيخ بواسع رحمته - والهم أبناءه الأفاضل الدكتور محمد والمشايخ سفيان والنعمان وغالب وبناته وعقيلته، وشقيقه محمد «أبو عزام» وجميع أسرة المشعل ومحبيه الصبر والسلوان.
قَضَيتَ حَياةً مِلؤُها البِرُّ وَالتُقى
فَأَنتَ بِأَجرِ المُتَّقينَ جَديرُ
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء