سهوب بغدادي
الفن نبراس الأمم المتوهج على مر العصور، وأول النطاقات التي تعكس هوية الشعوب والجماعات ويتداخل تباعًا مع الثقافة لتشكيل حضارات خالدة، إلا أن وهج الفن قد يخفت إذا ما أصبح أمرًا مضمونًا ولم يول الاهتمام من متلقيه؛ فينتج عن ذلك قلة أو انعدام الشغف الدافع لإنتاج المزيد منه، إن الحياة بلا فن كالجسد بلا روح أو أسوأ خاصة في ظل الثورات الصناعية والاستهلاكية والرقمية التي جعلت من حياتنا روتيناً جافاً، لذا يجد الإنسان في الفن باختلاف مجالاته متنفسًا من الضغوطات اليومية، في سياق متصل، لطالما سمعنا عبارة «الفن ما يأكل عيش» وقد قيلت لي عندما كنت صغيرة من معلمات التربية الفنية مع كل مرة أعبر فيها عن مدى عشقي للرسم ورغبتي في الالتحاق بمعهد الفنون الجميلة لأصبح رسامة، فكبرت وأصبح الفن جزءاً من يومي، ولكن لم أتجرأ على ممارسته كمصدر رزق، ومع كل إشراقة يوم جديد أتأكد أكثر فأكثر أنهم كانوا مخطئين، حيث عنيت المملكة العربية السعودية بالفن والثقافة بشكل ملحوظ في عديد من المواطن والأنشطة، بل إن سمو ولي العهد قام بالتوجيه لدعم الفن التشكيلي والفنانين بأن تكون اللوحات التشكيلية الموجودة في الوزارات والإدارات الحكومية وإدارات الدولة وكياناتها لفنانين تشكيليين سعوديين وأقيمت العديد من المشاريع التي تدعم الفن والفنانين، حيث أصبح الفن التشكيلي موجوداً في كل مكان وزمان، وعلى جدران الشوارع والأبنية والمطاعم والمقاهي، وما إلى ذلك، في هذا النسق، لفتي معرض جاكس المقام في الدرعية مؤخرًا، إذ وجدت فيه معنى الحب! فللمرة الأولى أختبر شعور مماثل يحمل في ثناياه مشاعر الفخر والاعتزاز والامتنان والسعادة. وفي حادثة لطيفة داخل معرض جاكس وجدت شخصًا يحاول شرح أمر ما بلغة ركيكة فسألته عن اللغة التي يتقنها فقال الفرنسية، فكنت في غاية السعادة باعتباره تخصصي الأساس وأخذنا الحديث، لقد كان أحد الفنانين المشاركين في المعرض بأحد الأعمال المذهلة وحدثني عن التحديات التي واجهها لتنفيذ العمل وآليته وبعض الأمور التي تخرج عن السيطرة ولكنه تجاوزها ليخرج العمل الفني بأبهى صورة، كان الفنان المعاصر جوليان جاردير في غاية السعادة وكنت أسعد منه لأنها المرة الأولى له في المملكة وعبر عن رغبته في زيارتها كسائح، على هامش الحديث الرائع سألته هل الفن يأكل عيش؟ فنظر لي وأومأ برأسه قائلًا نعم، فتفاجأت قليلاً واختتمنا الحديث ثم مضيت نحو بوابةلخروج فلمحت شابًا يرسم على الجدار فتاة جنوبية في حقول البن فوصفت له جمال ما يرسم، من ثم سألته هل الفن يأكل عيش؟ فما لبثت أن انتهي من سؤال حتى أجاب بشكل سريع «نعم»، فكررت سؤالي ظنًا مني أنه لم يسمع السؤال بوضوح فقال نعم! ثم شرح لي قصته من شاب حديث التخرج إلى فنان تشكيلي ورسام جداريات معروف و»عليه طلب»، و»الخلطة السحرية» للنجاح هو العمل على نشر فنه خلال الفترات الأولى من ثم الانتشار والاستمرار، ففي حالة الفنان السعودي حمزة المانع الذي عمل مجاناً مع مجموعته قلم رصاص في معارض فنية لمدة عام أو ما يزيد حتى وصل إلى الدخل المعيشي الذي يرضيه، فهنا رسالة جميلة لجميع الفنانين بأن الشغف والهوايات لا تتعارض مع العمل، من ناحية أخرى، يستحسن أن تتعاون وزارة الثقافة مع وزارة التجارة في تخصيص تراخيص فنية للفنانين بمختلف مجالاتهم وتخصصاتهم لممارسة أعمالهم بشكل احترافي، فالفنان يلجأ إلى وزارة التجارة لإصدار رخصة مؤسسة فنية ولا أجدها متخصصة وملائمة للفنان وعمله، وعلى كل حال أنا أعيش حاليًا حالة حب لكل شيء نظرًا لتوافق رأي الفنانين السعودي والفرنسي في ذات النطاق فلا المكان والمجال يشكل تحديًا اليوم للفنانين ونشر فنهم.