د.عبدالله بن موسى الطاير
ذلك الرجل الذي قتله فضوله في معرفة ما لا يعنيه، أراد أن يسري عن الملك الحميري في يوم إجازته بسؤال كانت إجابته «اذبحوه ليرى» فذبح ولم ير جواب السؤال، ولم يعرف أين وصل دمه؛ وكذا يقال «رب كلمة قالت لصاحبها دعني».
أما إيلون ماسك فقد استخف دمه مع دونالد ترمب فارتد عليه قصفا من العيار الثقيل من الرئيس السابق وأتباعه. قال ماسك مداعبا ترامب يحثه على الاعتزال، ما معناه: ارتد قبعتك وأبحر حتى تذوب مع الشمس في عين الغروب. وماسك يستدعي في تعليقه النهايات الطبيعية للظواهر، فكم من حضارة ودولة وعلَم وسيد وسلطان وقائد ومشهور أفل نجمه فهوى في عين حمئة أو باردة، تلك هي الحياة، شئنا أم أبينا، يقول الشاعر الأول:
كُلُّ نجمٍ سَيَعتَريه أفولُ
وَقُصارى سفر البَقاء القفولُ
لاحقٌ إِثر سابقٍ واللَيالي
بالمَقادير راحلاتٌ نُزولُ
والأفول مفردة رغم فداحة معناها لكنها لطيفة ودقيقة في تعبيرها عن الدلالة، فهي حالة من الضعف التدريجيّ تتبع النموّ أو العظمة أو النَّجاح، فلكل شيء إذا ما تم نقصان. يقول جميل صدقي الزهاوي:
لكل طلوعٍ يا ذُكاء أفول
فنورك هذا في المساء يزولُ
ويرحل لألاء النهار وبعده
يخيِّم ليل يا ذكاء ثقيل
تصعَّدتِ في أوج تسامى مقامه
وكل صعودٍ يقتضيه نزول
لكن النرجسيون لا يؤمنون بالأفول، ولا يخطر ببالهم وهم فوق صهوة المجد، بل يعتقد بعضهم أنه مخلد، حتى إذا جاءت الحقيقة سقط نجمه، وعادة ما يكون لسقوطهم دوي في نهايات مأساوية خلدها التاريخ. ويبدو أن الرئيس ترامب لا يحب الأفول، ولذلك استشاط غضبا من مزحة إيلون ماسك.
وإبراهيم عليه السلام أدرك بثاقب بصيرته أن الأفول ليس من صفات الخالق، ولكنه سمة ملازمة لما دون ذلك قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}، وهكذا فعل مع القمر والشمس. لست هنا متماهيا مع المتكلمين الذين يرون أن «كل من كان آفلا لا يصلح أن يكون ربا يعبد»، وفي ذلك نقاش عن الحركة والتحول ليس هذا محله، ولكني مع ظاهر النص الذي جعل إبراهيم عليه السلام يستنكف أن يعبد آفلا، وهو الذي لا يحب الآفلين.
والأفول يستخدم للدلالات الكبيرة، كأفول الدول، والحضارات، والرموز والنجوم ممن كانت وكانوا ملء السمع والبصر، وليس أفول المعتاد على غيابه، وزوال غير الملاحظ وجوه. فالنص القرآني استخدم الأفول للنجم، والقمر والشمس، وهي واضحة يملأ وجودها الفضاء. ويتكرر في عالم اليوم أفول الحضارة الغربية، وأفول أمريكا، وأفول عصر النفط، وأفول القطب الواحد، وأفول النظام العالمي الحالي، وأفول الإسلام السياسي، وأفول إسرائيل. أما الغياب فلفظة متواضعة رغم وخز الألم في وقعها على النفس، ولكنها لا تحتمل معاني أكبر من غياب المألوف والمتوقع غيابه.
ماسك كغيره ممن سبقه، ألقى بمزحة ثقيلة استفزت مزاجا نرجسيا حادا، وأتباعا يموج الغضب في جموعهم منذ انتخابات 2020م، ولذلك تم سلق ماسك بألسنة حداد. وقديما قيل لكلِّ شيء بَذْر، وبَذْر العداوة المزَاح»، وإذا كانت علاقات المشاهير والنافذين لا تختلف كثيرا عن أسعار الأسهم صعودا ونزولا، فإن علاقة الشعبويين ترامب وماسك قد أظهرت مزحة ثقيلة حقيقة ما تخفيه الصدور.
وقال الحجاج بن يوسف الثقفي لأيوب بن زيد بن قيس بن زرارة الهلالي الملقب بابن القرّية: ما زالت الحكماء تكره المزاح وتنهى عنه؟ فقال ابن القريّة: «المزاح من أدنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب: المزاح أوله فرح وآخره ترح، المزاح نقائض السفهاء كالشعر نقائض الشعراء، والمزاح يوغر صدر الصديق، وينفر الرفيق، والمزاح يبدي السرائر؛ لأنه يظهر المعاير، والمزاح يسقط المروءة، ويبدي الخنا، لم يجرَّ المزاح خيرًا وكثيرًا ما جرَّ شرًّا، الغالب بالمزاح واتر، والمغلوب به ثائر، والمزاح يجلب الشتم صغيرُه، والحربَ كبيرُه، وليس بعد الحرب إلا عفو بعد قدرة».
والرئيس ترامب ليس بريئا من المزاح الثقيل فقد وصف خطوات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحربه على أوكرانيا أنها «ذكية وعبقرية»، ثم أكمل مزحته بوضع خطة لهزيمة بوتين في أوكرانيا واشعال حرب بين روسيا والصين في خطاب ألقاه في نيو أورلينز وتقضي خطته «وضع الأعلام الصينية على طائرات F-22 الخاصة بالقوات الأمريكية، ثم قصف روسيا، مما يؤدي إلى نشوب صراع بين هذين البلدين الحليفين»، يقصد روسيا والصين.
رب كلمة قالت لصاحبها دعني، ورب سبب تافه أشعل حربا كالبسوس، ورب حقيقة قيلت في غير موضعها فكانت وبالا على قائلها.