صلاح عبدالستار محمد الشهاوي
ذكر الله تعالى القلم في أول ما أنزل بقوله: «اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم» (العلق: 3-5) فقرن القراءة بالقلم، باعتبار أن الخط والبيان يتقاسمان فضيلة البيان، فالخط دال على الألفاظ. والألفاظ دالة على الأفهام، وأقسم الله تعالى بالقلم، في قوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: 1) روي أن: «ن» تعني الدواة. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (البقرة: 282) وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (العنكبوت: 48) وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (لقمان: 27) وآيات كثيرة تذكر مكانة القلم والخط.
وقال مجاهد: في قوله تعالى: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء} (البقرة: 269) أى الخط. وقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} (البقرة: 129) أي يعلمهم الكتابة والكتب. وقوله تعالى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن: 4) يشمل البيان اللفظي والخطي.
وقال رسول الله- صلي الله عليه وسلم-: «قيدوا العلم بالكتابة»
والكتابة: نقوش مخصوصة دالة على الكلام دلالة اللسان على ما في الجنان.
الخَط: اسم والجمع الخطوط، والخط: السَّطر، والخط: الكتابة ونحوها مما يخط باليد، والخط كل مكانٍ يخطّه الإنسان لنفْسِه ويحفره وهو الطريقُ المستطيلُ وهو كل ما لَهُ طُول.
وفي لسان العرب: «هو الطريقة المستطيلة في الشيء والجمع خطوط».
وخط القلم: أي كتبَ. وخط الشيء كتبه بقلم غيره.
وفَن الخط: فن تحسين الخطوط وتجويد الكتابة. والخط: كتابة، (تصوير اللفظ بحروف هجائية).
والخط اصطلاحا: تصوير اللفظ برسم حروف هجائية بتقدير الابتداء به والوقوف عليه.
الخط العربي تاريخ موجز:
كتب العرب في مكة بخط يسمي المكي، وهو مشتق من الخط النبطي. وبعد هجرة النبي- صلي الله عليه وسلم- إلى المدينة في عام 622م استُنبط خط يسمي الخط المدني، وهو يختلف قليلاً عن الخط المكي. وبعد تأسيس مدينة الكوفة في عام 638م ظهر الخط الكوفي الذي يمثل بداية مرحلة جديدة في تاريخ الخط العربي، لأنه كان بداية للتطوير والتحسين والتنوع في الخطوط. ومع انتشار الإسلام انتشر الخط الكوفي في كل البلاد التي فتحها المسلمون وطبعه كل قطر بطابعه الخاص، فبدأنا نرى الخط الدمشقي أو السوري، والبغدادي أو العراقي أو المحقق، والمصري، والقيرواني والأندلسي، ونُسب بعض الخطوط إلى أُسر حاكمة مثل الخط الكوفي الفاطمي والأيوبي والمملوكي، وظل هذا الخط بكل أشكاله هو الذي تكتب به المصاحف حتى القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي عندما ظهر ابن مقلة ومن بعده ابن البواب، وبدأت كتابة المصاحف بالخط النسخي.
وشهد القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي اختفاء الخط الكوفي من كتابة المصاحف، وإن ظل يستخدم في زخرفة المساجد وكتابة شواهد القبور. وبمرور الزمن ظهرت أنواع جديدة متطورة من الخطوط مثل النسخ الجديد والرقعة والثلث والديواني والتعليق...الخ.
- مدارس تجويد الخط العربي
في العصر الأموي ظهرت مدرسة الخط الشامية، وكان مؤسسها الكاتب خالد الهياج، ومن أبرع خطاطيها قطبة المحرر.
وفي العصر العباسي ظهرت المدرسة العراقية ونبغ فيها الضحاك، وإسحاق بن حماد، وابن مقلة وابن البواب، وهاتان المدرستان هما اللتان بلغتا بالكتابة العربية مرحلة الجمال ومعاييره وأحكامه.
وفي العصر المملوكي ظهرت المدرسة المصرية التي جمعت تراث الخط وجودت الخطوط المشتقة من خط الطومار الكبير(خط الثلث والثلثين).
وفي العصر السلجوقي ظهرت مدرسة الخط السلجوقية الأتابكية، التي جودت خط النسخ، ولذلك كان المصحف السلجوقي الأتابكي أجمل من المصحف المملوكي.
وفي العصر العثماني جمعت مدرسة الخط العثماني جملة من خطوط المدارس السابقة، فقد أخذت من المدرسة المصرية والمملوكية والسلجوقية وطورت ما أخذت بأسلوبها الخاص، وابتكرت خطين جديدين هما خط الرقعة والخط الديواني، ولم يتوقف العثمانيون عند ذلك، بل طوروا قلمين جديدين هما خط الإجازة الذي جمع بين النسخ والثلث، والخط الهمايوني المولد من الخط الديواني. كما تفردوا بخط الطغراء الذي صُدّرت به الأوامر السلطانية.
- الخط العربي من دلائل المدنية والعمران
يعتبر ابن خلدون (ت: 808 هـ/ 6041م) أول عالم، عربي أو غير عربي، ربط بين الحضارة وابتداع الخط، بين إجادته وتقدمها، ثم تتبع مداه داخل الجزيرة العربية وذلك في قوله: «إنما يكون - الخط - بالتعليم، وعلى قدر الاجتماع والعمران والتناغى في الكمالات والطلب تكون جودة الخط في المدينة، إذ هو من جملة الصنائع، وقد قدَّمنا أن هذا شأنها، وأنها تابعة للعمران، ولهذا نجد أكثر البدو أميين لا يكتبون ولا يقرأون، ومن قرأ منهم أو كتب فيكون خطه قاصرًا، وقراءته غير نافذة، ونجد تعليم الخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغ وأحسن وأسهل طريقًا، لاستحكام الصنعة فيها، كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد، وأن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط، يلقون على المتعلم قوانين وأحكامًا في وضع كل حرف، ويزيدون إلى ذلك المباشرة بتعليم وضعه، فتعتضد لديه رتبة العلم والحسن في التعليم، وتأتى ملكته على أتم الوجوه، وإنما أتى هذا من كمال الصنائع ووفورها، بكثرة العمران، وانفساح الأعمال».
فالعرب بعدما تشربوا الإسلام في قلوبهم وأفئدتهم، خرجوا ينشرون النور الرباني في جنبات الأرض ويفتحون البلاد والأمصار ويحملون لغتهم الأم (العربية) في كل مكان وطئته أقدامهم، وهي اللغة التي استطاعت لخصوبتها وروعتها وبلاغتها أن تمحو كثيراً من اللغات وأن تحل مكانها وتصبح لغة الفتوحات والبلدان الإسلامية الجديدة، ولذلك أصبح الخط العربي هو المستخدم في هذه الأصقاع.
فاللغة العربية وخطها حددا أسلوب التفكير لجميع الشعوب المسلمة إلى درجة كبيرة، ورسما المنحنى الفكري العربي إلى حد كبير، وتغلغلا في نفس المسلم حتى انعكست على فنونه الإبداعية، فالفن التشكيلي في الإسلام ما هو إلا انعكاسه للكلمة القرآنية، ولا شيء يتطابق مع الحس الجمالي الإبداعي للمسلم مثل الكتابة العربية، فهي تمزج ما بين أقصى القواعد الهندسية صرامة، وأكثر الإيقاعات نغمية، فاللغة تتكون عموماً، من الحدث السمعي والحدث التخيلي. واللغة العربية لغة صوتية، بمعني أنها ربما كانت من أكثر اللغات تميزاً في هذا الجانب، لذا فهي تجريدية في صياغة أسلوبها.
- الخط الفن التشكيلي الإسلامي الأول
من الحقائق الثابتة أنه منذ نشأة الفن الإسلامي، صاحبت الكتابات والزخارف والرسوم كل الأبنية (المساجد، والقصور) والتي جاءت مليئة بالرسوم التشخيصية لكلا الفنين: الزخرفي المجرد والتشخيصي، واللذين تطورا وشكلا عنصراً أساسياً من حضارة الإسلام وفنونها الجميلة. هذه الزخارف الفنية الإسلامية التي احتلت أهمية لا نظير لها في أية حضارة أخري أصبحت العنصر البارز في الفنون الإسلامية، ولما انتشر الخط العربي وشاع وتنوع كان هم الخطاط المسلم – الفنان- البحث عن تكوين جديد مبتكر، يتولد من اشتباكات قواطع الزوايا ومزاوجة الأشكال الهندسية، لتحقيق الجمال الرصين الذي يصبغه على أشكاله الزخرفية أو الخطية.
يقول المستشرق جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: «للخط العربي شأن كبير في الزخرفة فهو ذو انسجام عجيب مع النقوش العربية، ولم نجد في الزخرفة حتى القرن التاسع من الميلاد غير الخط الكوفي ومشتقاته كالقيرواني والكوفي القائم الزوايا، وتؤخذ هذه الكتابات من القرآن الكريم على العموم، وأكثر هذه الكتابات استعمالاً، هو السطر الأول من القرآن الكريم وهو (بسم الله الرحمن الرحيم) وإن كل بلد خفقت فوقه راية الرسول – صلى الله عليه وسلم- تحول بسرعة، فازدهرت فيه العلوم والفنون والآداب والصناعة أيما ازدهار».
** **
- عضو اتحاد كتاب مصر