د.سالم الكتبي
يقول الدبلوماسي الفرنسي السابق، رار أرو، في مقال نشرته مجلة «لوبوان» الفرنسية إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعد «منقذ الناتو»، وأن الحلف كان قبل ثلاث سنوات غير مؤهل لمحاربة التهديدات الحقيقية التي تواجه أوروبا، وفي مقدمتها الإرهاب والهجرة غير الشرعية، ولكن الوضع تغير بعد الحرب الروسية في أوكرانيا وأصبح الحلف أكثر قوة وتماسكاً.
واقعيًا فإن وجهة النظر هذه لها وجاهتها ومنطقيتها ومبرراتها الواقعية، والأهم أنها تثير تساؤلات جوهرية حول مدى إخضاع الإستراتيجيين الروس لخطط الحرب في أواكرنيا للدراسة من كافة جوانبها وأبعادها الإستراتيجية على المديين القريب والبعيد، لا سيما أن المسألة لا تقتصر على ما يمكن وصفه بمنح حلف الأطلسي «قبلة الحياة»، بل تطال وقوع روسيا في فخ الاستنزاف الذي يؤثر في الاقتصادات الغربية من دون شك، ولكنه يؤثر كذلك بقوة في الاقتصاد الروسي، بل يؤثر أيضاً في مستقبل روسيا كقوة كبرى ذات قدرات تنافسية على الساحة الدولية.
ليس سراً أن حلف الأطلسي قد عانى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، أزمة هوية واضحة، وذلك بعد انتفاء الهدف الأساسي من تأسيسه في عام 1949، والذي كان يتمثل في ردع أي تهديد توسعي سوفيتي محتمل في القارة الأوروبية، حيث انهار الحلف المضاد (وارسو) الذي كان قد تشكل في عام 1955، وسقط جدار برلين وانهار الاتحاد السوفيتي ذاته عام 1991، وبدأت ملامح نظام أمني جديد تتشكل في أوروبا، حتى أن معظم دول «حلف وارسو» السابق قد أصبحت أعضاء في حلف الناتو!
عانى حلف الناتو بالفعل أزمة وجودية خلال العقد الأخير، وتجلى ذلك بوضوح حين وصفه الرئيس الأمريكي السابق ترامب بأنه «مجرد نمر من ورق»، وقال ترامب وقتذاك: «أعتقد أنه بعد 100 عام، سينظر الناس إلى الوراء، وسيقولون كيف تراجعنا إلى الخلف، وسيتراجع حلف الناتو أيضا، والذي وصفته في مناسبات كثيرة بالنمر من ورق»، والأمر لم يقتصر على ذلك بل إن الرئيس الفرنسي ماكرون وصف الحلف في عام 2019 بأنه «ميت دماغياً» وأنه آن الأوان لفرنسا للانسحاب منه، بل أكد مؤخراً أن الحلف كان ميتاً بالفعل، وأن الحرب الروسية في أوكرانيا قد أحدثت «صدمة كهربائية» أنعشت الحلف، ومنحته وضوحاً إستراتيجيًا كان ينقصه بالفعل، مؤكداً أهمية الحلف في التصدي لروسيا، وأن الحلف كان مختلفاً في أواخر عام 2019 عن الوضع الآن.
المفارقة أن فرنسا كانت تشكك في مستقبل الأطلسي حتى قبل أشهر قلائل، وتحديداً في سبتمبر الماضي، حين قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إن إلغاء أستراليا صفقة شراء غواصات فرنسية واستبدالها بأخرى أمريكية عاملة بالوقود النووي، «سيؤثر على مستقبل حلف شمال الأطلسي».
المؤكد أن معظم معضلات الناتو في العقدين الأخيرين كانت تنحصر بالأساس في الخلاف حول مخصصات تمويل ميزانيات الحلف، فضلاً عن ظهور خلافات كبرى بين بعض أعضاء الحلف، مثل الخلاف بين تركيا وكل من اليونان وفرنسا، فضلا عن توجه تركيا، وهي عضو أساسي بالحلف، لشراء منظومات تسلح روسية، ناهيك عن عدم قدرة الحلف على بناء إستراتيجية كفؤة للتعامل مع روسيا وصعود الصين وتحديد أولويات الحلف في القرن الحادي والعشرين، لا سيما أن رؤية الحلف الإستراتيجية المعنونة «الناتو 2030: متحد من أجل حقبة جديدة»، قد رصدت «ازدياد عدوان روسيا» وأنها ستظل أكبر تحد عسكري للحلف في العقد المقبل، ولكنها لفتت الأنظار بقوة للصين باعتبارها الخطر الصاعد.
أعتقد بوضوح أن مؤشرات قوة وتماسك حلف الأطلسي تترسخ بوتيرة متسارعة، وأن سؤال المستقبل المجهول لم يعد مطروحاً كما كان الحال طيلة العقد الفائت، حيث تتعمق سياسة توسع الحلف بانضمام كل من فنلندا والسويد للحلف، الأمر الذي يعد تحولاً نوعياً ذات دلالات مهمة، حيث بات الحلف يضم، ليس دول حلف وارسو السابق فقط، بل دولاً ظلت على الحياد طيلة حقبة الحرب الباردة، ولم تفكر قط في الانضمام للحلف منذ تأسيسه. ولم تقتصر التحولات على ذلك بل يلاحظ توالي الخطط الأوروبية لزيادة ميزانيات الدفاع، فضلاً عن ازدياد عدد القوات الأمريكية في أوروبا من 60 ألفاً إلى نحو مائة ألف، ما يعكس تجدد الاهتمام الأمريكي بأمن أوروبا بعد أن كانت واشنطن على وشك التخلي عن التزامها بأمن شركاء الأطلسي (خلال قمة مدريد أعلن بايدن عن نية بلاده تعزيز وجودها العسكري في القارة الأوروبية، ويتضمن ذلك إنشاء مركز قيادة عسكري دائم في بولندا، علاوة على إرسال بوارج بحرية عسكرية إلى إسبانيا ومقاتلات إلى بريطانيا وقوات برية إلى رومانيا)، كما أعلن الناتو عن خطط لزيادة عدد قوات الرد السريع من 40 ألفاً إلى أكثر من 300 ألف جندي، وهي نقلة نوعية كبرى وصفها الأمين العام للحلف يانس ستولتنبرغ بأنها «أكبر إصلاح شامل لقوة دفاعنا وردعنا الجماعي منذ الحرب الباردة»، كما عزز الحلف عدد وحجم ونوعية مجموعاته القتالية متعددة الجنسيات في شرق أوروبا، كما تخلى الحلف عن موقفه الرسمي الذي منحه لروسيا في عام 2016، حين اعتبرها «شريكاً إستراتيجيًا»، وعاد لاعتبارها «تهديداً مباشراً» لأمن الحلف.
في ضوء ما سبق، يمكن الاعتقاد بأن روسيا لم تقدر جيداً ردة الفعل الأطلسية حيال أوكرانيا، ويبدو أن الخلافات بين أعضاء الحلف قد أسهمت في تغذية توقعات المخططين الروس بانقسام الناتو وصعوبة اتفاق أعضائه على موقف موحد حيال الحرب في أوكرانيا، وهي في مجملها عبارة عن سوء تقدير بالغ وقراءة خاطئة للمعطيات، لكن في مجمل الأحوال فإن الناتو قد أصبح بعد حرب أوكرانيا على خلاف ما كان قبلها.