الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
في كل بلاد الدنيا يتواجد نسبة لا يستهان بها من الناس تعاني من اضطرابات نفسية أو عقلية، كما يوجد حالات تأخر عقلي لأي سبب قد يؤدي لحدوث أي نوع من القصور في القدرات العقلية، وبالطبع نجد أن كل الدول تتقبل مثل هذه الشريحة داخل مجتمعاتها وتحاول مساعدتهم واحتوائهم ودمجهم مع باقي فئات المجتمع من خلال تقديم كل أنواع الدعم لهؤلاء المرضي ولعائلاتهم، سواء كان ذلك الدعم معنوياً أو اجتماعياً أو مادياً، وسواء كان الدعم رسمياً من خلال القنوات الرسمية في الدولة والحكومة والمسؤولين أو عن طريق الجمعيات الخيرية الأهلية - ولكي يتم تقديم الدعم المناسب لمن يستحقه فعلاً - يتوجب على الجهات الرسمية وغير الرسمية والتي تقدم أي شكل من أشكال الدعم أن تتأكد من نوعية المرض النفسي والعقلي، وتحديد درجة العجز أو الإعاقة التي تؤثر على قدرات الشخص حتى يأخذ كل شخص ما يستحقه فعلاً، وهذا يتطلب من أهل المريض تقديم تقرير طبي من طبيب نفسي استشاري يعمل لدى جهة حكومية أو حتى لدى جهة خاصة معتبرة ومرخصة، ومن حق المريض وأهله الحصول على تقرير طبي نفسي يتم فيه توضيح الحالة المرضية النفسية والعقلية بمنتهي الدقة والصراحة، مع تحديد التوصية الطبية والاجتماعية التي يستحقها المريض فعلاً وتتوافق مع حالته الصحية، ولكن بدون حدوث أي نوع من التجاوزات من جانب الطبيب النفسي أو أهالي هؤلاء المرضى - ومن هنا يأتي دور الطب النفسي الشرعي - حيث يتم إسناد عملية التقييم النفسي والعقلي لطبيب نفسي مؤهل أمين يستطيع القيام بتشخيص صحيح وعمل تقييم دقيق ومنضبط لنوعية ودرجة الإعاقة النفسية والعقلية للمريض، ويقرر التوصية التي تناسب درجة المرض أو الإعاقة وهو بذلك يدلي بشهادته الشرعية للجهات الرسمية أو الأهلية التي تطلب منه ذلك بصفته المهنية.
وللحديث عن دور وأهمية الطب النفسي الشرعي في المجتمع كان لنا هذا اللقاء مع الاستاذ الدكتور عزت عبد العظيم أستاذ الطب النفسي بجامعة الزقازيق بمصر، واستشاري الطب النفسي بالرياض، وكان الحوار التالي:
* بداية ما معنى الطب النفسي الشرعي؟ وهل يمكن اعتباره أحد تخصصات الطب النفسي؟ وما هو دوره في المجتمع؟ وما المواصفات والقدرات للطبيب النفسي الشرعي لكي يستطيع مساعدة المجتمع والجهات الرسمية؟
- الطب الشرعي هو أحد التخصصات الطبية المهمة والصعبة والتي يعمل بها أطباء متخصصون في فهم وتفسير وتوضيح الجوانب الطبية من الناحية الجنائية، ولكن بعض الحالات يوجد احتمالية أن المتهم يعاني من اضطراب نفسي أو عقلي، وفي هذه الأحوال لا يستطيع الطبيب الشرعي العام تقييم الأمور النفسية والعقلية، وهنا يأتي دور الطب النفسي الشرعي بانتداب طبيب نفسي أو حتى من خلال تشكيل لجنة طبية نفسية لمساعدة الجهات الرسمية أو القضائية في تحديد وتفسير وتوضيح كيفية حدوث أي جريمة من الناحية الطبية النفسية، ومدى إدراك واستبصار ومسؤولية الجاني عن تصرفاته، وهل تم ارتكاب الجريمة بفعل إجرامي قصدي أو بفعل عفوي بدون قصد وذلك وصولاً لتحقيق العدالة، ولأن الطبيب الشرعي غير متخصص في الجوانب النفسية والعقلية، ولا يستطيع الإفادة في مثل هذه الأمور، لهذا أصبح الطب النفسي هو المسئول شرعياً عن إبداء الرأي في الأمور النفسية والعقلية في عالم الجريمة لتقييم مدى سلامة القوى العقلية للمجرم ومدى مسئوليته عن قيامه بجريمته، وكذلك أيضاً أصبح للطبيب النفسي دوره الشرعي في تقييم القدرات العقلية للشخص لكي يمكنه الإدراك والتمييز والحكم الصائب على الأمور وحسن التصرف، لكي يقوم بعمليات البيع والشراء وعقد الزواج والطلاق، مع إمكانية التوصية بالحجر أو الولاية الشرعية على الشخص لمنعه من التصرف الخاطئ، وذلك عند وجود خلل واضح في القدرات العقلية عند الشخص عندما يكون مريض فصام أو ذهان أو هوس أو زهايمر أو أن الشخص يعاني من تأخر أو تخلف عقلي، وذلك حفاظاً على حقوق السفهاء أو المتأخرين عقلياً، كما يقوم الطبيب النفسي سواء كان يعمل بالحكومة أو بالخاص نظراً لكثرة الحالات ولتخفيف الضغط وتسهيل الأمور وتخفيف المعاناة عن المرضى وذويهم وتسريع الإجراءات على هذه الفئة من الناس، وبذلك يتم السماح للأطباء النفسيين الاستشاريين بالمستشفيات الخاصة بمساعدة الجهات الرسمية في تقييم الحالات الإنسانية وتحديد الحالات التي تحتاج إلى دعم الدولة نتيجة لقصور أو اضطراب في قدراتهم النفسية والعقلية.. ولكي يكون الطبيب النفسي جديراً بالقيام بعملية تقييم الحالة النفسية والعقلية للأشخاص الذين تطلب منه أي جهة كتابة شهادته عن الحالة النفسية والعقلية لأي شخص، لابد أن يكون لدى الطبيب النفسي مؤهلات عالية وخبرة طويلة في هذا المجال تجعله يؤدي مهمته على الوجه الأكمل.
* هل توجد قوانين ولوائح تنظّم عمل الأطباء النفسيين للإدلاء بشهادتهم أو كتابة تقارير طبية نفسية عن المرضى النفسيين والعقليين حتى يكون له صفة رسمية أو شرعية؟
- مؤكد أن كل دولة تضع لها لوائح وقوانين تنظّم من خلالها مثل هذه الأمور لكي يتم التنسيق والتعاون بين الجهات الرسمية والأطباء النفسيين الأكفاء المؤهلين، لتقديم المشورة الطبية النفسية الصحيحة بكل دقة وأمانة وصدق والتي تخدم المرضى وتساعد المجتمع والدولة بكل هيئاتها في تقديم الدعم والمساعدة المطلوبة للمرضى النفسيين والعقليين وذويهم، وفي بعض الدول قد يتطلب الأمر عملية حجر أو تحديد مدى المسئولية الجنائية لأحد الأشخاص عندما يظهر عليه الاختلال النفسي أو العقلي، وبالتالي تقوم الجهة القضائية بترشيح ثلاثة أطباء نفسيين في غاية الكفاءة وبدرجة علمية عالية كأن يكونوا أساتذة جامعة أو استشاريين في الطب النفسي، ويجب ألا تربطهم مع الشخص المطلوب أي صلة قرابة حتى الدرجة الثالثة وقد يتطلب أيضاً وضع هذا الشخص تحت الملاحظة لعدة أسابيع، وفي بعض الأحيان يكفي شهادة طبيبين نفسيين لتقييم الحالة العقلية للشخص، وفي معظم الأحوال غير الجنائية كالشئون الاجتماعية أو عند الالتحاق بإحدى مدارس الاحتياجات الخاصة يكفي وجود طبيب نفسي واحد لتقييم حالة الشخص نفسياً وعقلياً وتقديم تقرير واضح عن الحالة بدون الدخول في مصطلحات طبية معقدة.
* وما تلك الاضطرابات النفسية والعقلية التي تحتاج إلى التقييم الرسمي أو الشرعي من جانب الطبيب النفسي وتقديم تقرير طبي عنها؟
- كثير من الاضطرابات النفسية والعقلية تستطيع التعايش داخل المجتمع مثل باقي فئات المجتمع ولا تحتاج تقارير طبية، ولكن بعض الاضطرابات تحتاج بعض جهات الدولة الرسمية إلى تشخيص الحالة على وجه الدقة وتقييم قدرات الشخص النفسية والعقلية لتحديد مدى الإعاقة لديه ومدى احتياج الشخص المساعدة المعنوية والمادية، وتحمل الدولة تكاليف عملية التعليم في مدارس التربية الفكرية لذوي الاحتياجات الخاصة من مرضى التوحد أو متلازمة داون أو حالات التأخر العقلي وصعوبات التعلم، وقد يكون التقييم النفسي والعقلي مطلوباً لإحدى المحاكم عندما يصاب الشخص بحالة الزهايمر ويحتاج الأمر إلى تعيين ولي شرعي يقوم بإدارة شؤونه المالية والرسمية، وقد يكون تقييم الحالة العقلية لتحديد درجة المسؤولية عن تصرفاته عندما يتعلق الأمر بارتكاب الشخص تصرفات وسلوكيات غير مقبولة قد تصل لحد الجريمة والتي تكدر صفو المجتمع والسلطات الرسمية، أو قد يكون التقرير الطبي النفسي لتقييم مدى قدرة الشخص النفسية أو العقلية التي تمكنه من الاستمرار في العمل أو سرعة إحالته للتقاعد بسبب حالته النفسية والعقلية.
* كيف يقوم الطبيب النفسي بعمل تقييم صحيح عن حالة الشخص النفسية والعقلية؟
- لكي يقوم الطبيب النفسي بعمل تقييم دقيق وصحيح عن حالة الشخص النفسية والعقلية لابد أن يكون الطبيب مؤهل علمياً وذا خبرة عملية في مجال الطب النفسي، ولديه القدرة على القيام بالتشخيص الصحيح للحالة النفسية والعقلية لأي شخص من خلال جمع البيانات والمعلومات من أهل الشخص مع إجراء الفحص الإكلينيكي ومناظرة الشخص مباشرة، وفحص حالته النفسية والعقلية مباشرة، وعند الضرورة يمكن الاستعانة بعمل أي فحوصات مخبرية أو أشعة مقطعية أو رنين مغناطيسي على المخ أو رسم تخطيطي لكهرباء المخ، وفي بعض الحالات قد يتطلب الأمر عمل بعض القياسات النفسية مثل اختبار التوحد أو قياس درجة الذكاء أو اختبار القدرات العقلية وتقييم درجة التعقل والإدراك والتمييز والحكم المنطقي على الأمور، وفي حالة تحديد المسؤولية الجنائية في الجرائم الخطيرة قد يتطلب الأمر أن يحتاج الطبيب النفسي إلى أن يضع المريض تحت الملاحظة لفترة من الوقت الكافي حتى يتمكن من الحكم الصحيح على حالة الشخص العقلية وتحديد مدى سلامة قواه العقلية وتحديد مدى مسؤوليته عن الجريمة.
* ما المسئولية القانونية التي يتحملها الطبيب النفسي عند الإدلاء بشهادته أو تقديم تقرير طبي عن الحالة النفسية أو العقلية لأي مريض يتم عرضه على الطبيب؟
- مثل الفتوى الشرعية يجب ألا يتصدّى لعملية تقييم الحالة النفسية والعقلية أي طبيب نفسي، ولكن يجب أن يكون لدى الطبيب المؤهلات والكفاءة والخبرة الكافية في مجال الطب النفسي الشرعي حتى يتمكن من كتابة شهادة صحيحة بجدارة، ويقوم بتقديم تقريره الطبي النفسي الموثوق فيه عن حالة الشخص النفسية والعقلية، ومعلوم أنه لا توجد أي مسؤولية قانونية على الطبيب النفسي طالما قدم للجهات الرسمية شهادة طبية صحيحة تطابق حقيقة وتشخيص حالة الشخص تشخيصاً صحيحاً، وطالما تم تحويل الحالة إليه بصفة رسمية لإبداء رأيه لأن صفته هنا أنه شاهد وشهادته هنا بصفته المهنية وقد أكد المولى سبحانه ذلك الأمر في القرآن فقال: «ولا يضار كاتبٌ ولا شهيد»، طالما كانت لا تخالف الحقيقة ولا يكتنفها التلاعب والخداع، ولكن لو ظهرت هذه الأمور يجب إعادة فحص الحالة لإعادة تقييم حالة المريض من جانب لجنة طبية أخرى.
* ما مدى مصداقية الشهادة الرسمية الشرعية للطبيب النفسي؟ وكيف يمكنه تفادي إمكانية التشكيك في شهادته الطبية؟
- إن شهادة الطبيب وكل الأطباء هي شهادة لله كأي شاهد يطلبه الناس للشهادة على أي واقعة ما، ولكن شهادة الطبيب هنا ليست شهادة شخصية ولكنها شهادة بصفة مهنية تتطلب منه توضيح الجانب الطبي للمريض بكل دقة وأمانة لما سيترتب على هذه الشهادة من أمور قانونية ورسمية ومالية وأدبية واجتماعية، ولهذا نلاحظ أن كل طبيب يخاف الله ويراعي ضميره حتى لا تكون شهادته شهادة زور يأثم بسببها ويبوء بسخط من الله، ولهذا نجد كل طبيب يتحرى الدقة والمصداقية فيما يكتبه في شهادته الطبية عن المريض ويسجل فيها كل ما يراه صحيحاً ومتطابقاً مع حالة الشخص المرضية ولا يكون لديه أي مجال للمحاباة أو التدليس، لأن أي تشخيص خاطئ أو توصية تخالف الحقيقة سوف يتم اكتشافها إذا ما تم إجراء توقيع كشف طبي جديد على نفس المريض من جانب أطباء آخرين، وبالطبع أي طبيب لا يريد أن يوقع نفسه في دائرة الخطأ ويقوم بتعريض نفسه للمساءلة والمحاسبة قانونياً، كون التقرير كان مخالفاً للحقيقة - ولأنه لا شيء عند الإنسان أهم من سمعته - فإن أي طبيب نفسي، أو غير نفسي لا يريد لسمعته كإنسان أن يمسّها أي سوء بسبب تقرير طبي، ولهذا نجد كل طبيب يتحرّى الدقة والأمانة ليكون تقريره الطبي عن المريض صحيحاً وخصوصاً تلك التقارير التي يتم تقديمها للجهات الرسمية بالذات.