هادي شرجاب اليامي
منذ انتصار الثورة الإيرانية وتكوين النظام الثيوقراطي الذي يتمحور حول ولاية الفقيه وأيديولوجياته وأدبياته، والعلاقات بين إيران والعالم بشكل عام وإيران والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص تتأرجح بين شدٍّ وجذب، بين توتر في العلاقات وانفراجات وقتية ما تلبث أن تعود إلى سابق عهدها. مع انتصار الثورة رحبت دول المنطقة وعلى رأسها السعودية بالنظام الجديد في إيران لا سيما أنه يرفع شعار الوحدة الإسلامية، والتعاطي البنّاء مع دول الجوار، والتقارب المذهبي، وتجاوز الخلافات، إلا أن هذه الشعارات الجميلة والبراقة ما لبثت أن تبددت قبل أن تستوعبها العقول والأفئدة. ولقد شهدت المنطقة حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران، وقد انعكست هذه الحرب أيضًا على طبيعة العلاقات بين ضفتي الخليج العربي، وأصبح استدعاء التاريخ وبخاصة من الجانب الإيراني جزءًا من الخطاب الإعلامي والسياسي والأيديولوجي المتكرر طيلة العقود الأربعة الماضية.
جاءت حكومة الإصلاحات بهندسة رفسنجاني وقيادة خاتمي وإشراف كامل من المرشد الأعلى علي خامنئي وذلك لحاجة البلاد لمثل هذه الحكومة بعد سنوات من الانكفاء على الداخل، وتوتر العلاقات مع دول المنطقة، ووصول الاقتصاد الإيراني إلى مرحلة سيئة لا تتحمل المزيد من العزلة السياسية والاقتصادية. استبشرت المنطقة خيرًا بهذا الانفتاح وربما تفاءلت بشكل مفرط في ولادة إيران جديدة، إلا أن ذلك التفاؤل لم يستمر طويلًا.
لن نسهب كثيرًا في استعراض أبرز ملامح هذه المرحلة ولكن من الأهمية بمكان الاعتراف بأن النظام الإيراني استغل -ولا أقول: استثمر- حسن النوايا لدول المنطقة، ورغبتها في الخروج من الخلافات مع الدول. ليروج لمزاعم تغير التوجهات السياسية للنخبة الحاكمة في طهران، ورغبتها في فتح صفحة جديدة مع دول المنطقة، وتجاوز خلافات الماضي، والتطلع إلى مستقبل أفضل للمنطقة وللعلاقات الثنائية بين إيران ودول الجوار العربي.
لذا شهدت الأعوام (1999: 2005م) تحسنًا ملحوظًا في العلاقات، وبخاصة بين طهران والعواصم العربية إلا أن إيران وظّفت هذه السنوات لزرع المراكز الثقافية والتجنيد، وشراء الولاءات، وبالتالي كونت لها خلايا نائمة ونشطة في دول المنطقة. كذلك لا ينبغي تجاهل أنه خلال حقبة ما يسمى بالإصلاحات في إيران تعاونت طهران مع القوى الغربية على إسقاط النظامين السياسيين الحاكمين في أفغانستان والعراق، وقد اعترف محمد أبطحي نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية بذلك صراحة إذ قال: «لولا إيران لما سقطت كابول وبغداد».
ولنتجاوز مرحلة رئاسة محمود أحمدي نجاد بكل ما فيها من توتر في علاقات إيران مع المنطقة والعالم، ونصل إلى مرحلة الرئيس حسن روحاني. لقد ركز روحاني خلال حملته الانتخابية على تحسين علاقات إيران مع دول العالم والمنطقة والمملكة العربية السعودية تحديدًا، وقد كرر ذلك بعد وصوله إلى مقعد الرئاسة إلا أن شيئًا من هذا لم يتحقق ربما لأسباب كثيرة، بعضها متعلق بالوضع الداخلي الإيراني، وبعضها الآخر مرتبط بالتطورات السياسية التي تشهدها المنطقة منذ عام 2011م. إلا أن الوضع لم يبق على ما هو عليه خلال حقبة أحمدي نجاد، بل ازدادت الأوضاع سوءًا، وارتفعت وتيرة التدخلات الإيرانية في المنطقة، كما أن السنوات الماضية شهدت تدخلات عسكرية إيرانية مباشرة في الداخل العربي عبر إرسال المقاتلين من الحرس الثوري والميليشيات المستوردة من العراق ولبنان وباكستان وأفغانستان، ومع ذلك كله أخفقت طهران على مستويين رئيسيين: أولهما عسكري وهو مساعدة الأنظمة القمعية على إحكام قبضتها وبسط سيطرتها، وإخماد الثورة الشعبية ضدها، وثانيهما سياسي ودبلوماسي يتمثل في انكشاف الأهداف الإيرانية أمام الحكومات والشعوب العربية. الأمر الذي قاد إلى عزلة سياسية إيرانية لم تشهد إيران لها مثيلًا في تاريخها الحديث، إذ قام العديد من الدول العربية والإسلامية، إما بقطع علاقاتها مع طهران، أو تخفيض التمثيل الدبلوماسي معها.
هذا السرد المختصر لطبيعة العلاقة بين إيران ودول المنطقة ومن بينها السعودية منذ انتصار الثورة الخمينية عام 1979م يسهم كثيرًا في فهم مراحل هذه العلاقات، والأهم من ذلك أنه يساعد القارئ على استشراف مستقبل العلاقات بين العرب وبخاصة السعودية وإيران. لا شك أن الخلافات السعودية الإيرانية في أوجها وستستمر حتى تفي القيادة الثورية الإيرانية بما ترفعه من شعارات اطمئنان لدول الجوار فعلًا لا قولاً فقط، وأن المؤشر لا يزال تصاعديًّا، فهناك ملفات ثنائية معقدة، وهناك ملفات إقليمية أكثر تعقيدًا. لكن لا بد أن ندرك أنه لا مستحيل في عالم السياسة والخطوات الدبلوماسية. وبعيدًا من أي مفاجآت إيجابية أو سلبية في طبيعة العلاقة بين البلدين، فإن المتابع لتصريحات الطرفين يصل إلى نتيجة مضمونها أن هناك فقدانًا للثقة بين الجانبين (الإيراني- العربي)، وأن ذلك يتسع يومًا بعد آخر.
لقد كرر المسؤولون السعوديون جملة واحدة وفي مناسبات كثيرة: «نريد من إيران أن تتحول من الأقوال إلى الأفعال». بعبارة أخرى، تريد الرياض من طهران أن تتصرف كدولة وليس ثورة طائفية يسعى الساسة هناك إلى تصديرها إلى دول المنطقة، تريد من طهران أن توقف دعمها للإرهاب في الداخل الخليجي والعربي، تريد من طهران أن تتوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وتتوقف عن زرع الخلايا التجسسية والمليشيات المسلحة وتهريب الأسلحة والعزف على الوتر الطائفي. كذلك الصدق في تنفيذ وعودها فعلًا لا قولًا فقط.
أما طهران فما زالت تنكر كل ذلك، وتزعم أن هناك نفوذًا وليس تدخلًا إيرانيًّا في تلك الدول، وشتان بين هذا وذاك، وهذا يعني أن النخبة الحاكمة في طهران لم تدرك جدية الموقف السعودي ولا حقيقة حزم الرياض في المرحلة الحالية. تحاول طهران أن تنعّم لغتها وتنحني أحيانًا للعاصفة، لكنّ السعوديين أصبحوا يفهمون إيران أكثر من أي وقت مضى، ومن هنا على طهران المتميزة في اللعب على رقعة الشطرنج أن تعيد حسابات خطواتها وإستراتيجية تحريك أحجارها على خريطة المنطقة. لأن التمادي في تجاهل الواقع قد يكلف النظام الإيراني الكثير على عدة أصعدة.
شتان بين الهيمنة والنفوذ
يدرك الجميع أن هناك مشاريع إقليمية تحيط بالمنطقة العربية، كالمشروع التركي والإسرائيلي والإيراني، ولكل من هذه المشاريع أدوات ووسائل، بعضها بارز وبعضها أقل وضوحًا، كما أن هناك تقاطعات ومشتركات بين بعض هذه المشاريع من ناحية الرؤى والأهداف، وإن اختلفت الوسائل والأدوات. من هنا تحتاج منظومة دول الخليج العربي التي تقود حاليًّا الدول العربية عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا إلى صياغة مشروع عربي تلتفّ حوله الأمة العربية لمواجهة التحديات الجيوسياسية، وتتصدى لتلك المشاريع المعادي منها، التي تسعى إلى ابتلاع المنطقة العربية وإن كان بدرجات متفاوتة ومتباينة.
وفي الحالة الإيرانية تحديدًا، تسعى طهران إلى بسط هيمنتها على المنطقة العربية عبر أذرعها، أو ما يسمى بالقوى البديلة المرتبطة بها مثل: ميليشيات حزب الله، والحوثي، والميليشيات المنتشرة في العراق وسوريا. إن مثل هذه التدخلات الصريحة في الشؤون الداخلية للدول ليست نفوذًا أو تمثل نموذجًا مغريًا لشعوب تلك الدول، وبالتالي لا يمكن القول بقبول مثل هذه التدخلات أو أنها تأتي في إطار التنافس السياسي بين القوى الكبرى في المنطقة. المؤكد أن من يروج لسياسة تقاسم النفوذ في المنطقة بين إيران والسعودية يتجاهل حقيقة كون ميدان هذا التقاسم هو الدول العربية دون غيرها، فماذا عن تقاسم النفوذ مع إيران في دول أخرى ترى طهران أنها بمنزلة الباحة الخلفية لها؟
إن التنافس السياسي وبسط النفوذ يكونان ناجحين من خلال النماذج التنموية والاقتصادية والسياسية، وليس من خلال العزف على النزعات الطائفية والمذهبية والعمل على زعزعة أمن الدول واستقرارها. ينبغي تذكر أن العلاقة بين إيران والسعودية خلال الحقبة البهلوية كانت تتسم بالتنافس السياسي في بعض مراحلها، ولكن ظل ذلك التنافس في نطاقه السياسي بعيدًا من إقحام الدين أو المذهب، أو ما يسمى أيضًا بالإسلام السياسي إلا أن الأمر شهد تحولًا كبيرًا بعد ثورة 1979م إذ استخدمت طهران تلك الأساليب غير المباشرة في تنافسها أو صراعها مع دول المنطقة العربية والسعودية تحديدًا.
حاليًا نجد أن طهران تروّج من جانب لتحسين العلاقات مع الرياض، ومن جانب آخر نجد قيادات عسكرية ورموزًا سياسية وحزبية تهاجم المملكة وتشجع بشكل أو بآخر على العنف في الداخل السعودي، وإذا لم تتحول إيران من ثورة طائفية إلى دولة طبيعية فإن محاولات بناء الثقة بينها ودول الجوار العربي لن تصل إلى نتيجة حقيقية وتوافق مستدام، وإن شهدت تحسنًا في مرحلة تاريخية معينة فإنها لن تصمد كثيرًا أمام أول اختبار حقيقي يواجهها.
خلاصة القول: ليس من صالح الرياض أو طهران استمرار حالة التوتر القائمة حاليًّا، وهذا الصراع السياسي في ظل ما يشهده العالم ومنطقة الشرق الأوسط تحديدًا من مهددات أمنية، وتنامٍ للجماعات الإرهابية الشيعية والسنية على حد سواء، إلا أن هناك خطوطًا حمراء من الصعوبة بمكان التنازل عنها أو التساهل مع من يحاول تجاوزها.