الحديث عن هذه الصَّفة المذمومة من وجهة نظري المتواضعة إنها نظرة ساخرة وضاحكة - للبخل والبخلاء فلا أريد أن نؤكد - أن العرب هم أكرم شعوب المعمورة قاطبة. كما لا أريد التعرض بالاسم لشعوب أخرى عُرفت بالتقتير والبخل. وبطبيعة الحال لن أتناول بالنقد والتحليل عن هؤلاء، بل أكتفي بهذا القول فإن البخل - شأنه شأن الكرم والكذب، والأمانة والمروءة والصّدق..... - فهو صفة إنسانيَّة موجودة عند كل شعوب الأرض قاطبة وبنسب متفاوتة.
ومن أطرف وأعمق ما قيل عن تعريف البخل
إنَّه رجل ينتحر جوعاً ليقتل ورثته بالتخمة.
وقيل: إن البخيل لا يستحق الحُرَّيَّة لأن ماله يملكه.
وقد أدلى سقراط برأيه في هذا الموضوع فقال: (إن الأغنياء البخلاء بمثابة البغال والحمير تحمل الذهب والفضة وتعتلف التبن والشعير).
فالبخل صفة مذمومة وليست من صفات المرء السوي - فقد ورد في كتاب الله الكريم آيات عدة عن البخل والبخلاء.
ويقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُورة آل عمران آية (180).
وقال تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ سُورة التوبة آية (34).
كما نهى نبي الرحمة محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه عن البخل فقال - خلَّتان لا تجتمعان في مؤمن: - البُخلُ وسوءُ الخُلُقِ).
وقال الحسن بن علي- رضي الله عنهما-:
البخل في خطبه وأقواله، فاعتبر أن (البخل جامع للمساوئ والعيوب، وقاطع للمودات من القلوب).
أما الإمام أبو حنيفة فكان لا يقبل شهادة البخيل.
فقد تحدث الشعراء العرب عن البخل والبخلاء فقد ورد في العقد الفريد:
أن الهيثم بن عدي - نزل على ابن أبي حفصة ضيفا باليمامة، فأخلى له المنزل، ثم هرب مخافة أن يلزمه قراه تلك الليلة، فخرج الضيف، فاشترى ما يحتاجه، ثم رجع وكتب إليه:-
يا أيها الخارج من بيته
وهارباً من شدة الخوف
ضيفك قد جاء بزاد له
فارجعْ تكن ضيفاً على الضيف
وقال ابن الرومي - ذلك الشاعر الساخر رسم لوحة شعرية عن البخلاء يصور فيها جاره البخيل، عيسى، بطريقة مبتكرة ومختصرة:-
يُقتر عيسى نفسه
وليس بباقِ ولا خالدِ
ولو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحدِ
وقد قال أحد الشّعراء واصفاً البخيل بهذه القصيدة الطويلة ما جرى معه وقت الغداء عند ذلك المضيف الشّحيح ومن تلك الأبيات ما يلي:-
أبو نوح أتيت إليه يوماً
فغداني برائحة الطعام
وقدم بيننا لحماً سميناً
أكلناهُ على طبق الكلام
فلما أن رفعت يدي سقاني
كؤوساً حشوها ريح المدام
فكان كمن سقى ظمآن آلاً
وكنت كمن تغدّى في المنامِ!!!
تمعن معي عزيزي القارئ هذه اللوحة الشعرية المكثفة والموفقة جداً لشاعر يرسم بالكلمات:-
ارفع عيونك عن طعامه
إن كنت ترغب في كلامه
سيان كسر رغيفه
وكسر عظِم من عظامه!!
وأطرف ما قيل في هجاء البخلاء قصيدة محمد بن مسلمة وفيها يهجو ابن الأغلب، والمعروف ببخله:
لون أن قصرك يا ابن أغلب كله
إبر يضيق بهن رحب المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة
ليخيط قد قميصه لم تفعل
سوف أسمعك يا أيها القارئ العزيز قصيدة شاعر خبيث يصف طعام أحد البخلاء:-
فتى لرغيفه قرط وشنف
وإكليلان من درو شدر
إذا كسر الرغيف بكى عليه
بُكا الخنساء إذ فجعت بصخر
ودون رغيفه قلع الثنايا
وضرب مثل وقعه يوم بدر
وهناك آلاف القصائد في ديوان شعرنا العربي تناولت موضوع البخل والبخلاء فقد احتج البخلاء على الشعراء - فقد قال أبو الأسود الدؤلي - وهو ممن عُرفوا بالبخل الشديد - يوضح موقفه بهذه الصرخة الشعرية المدوية:-
يلومونني في البخل جهلا وضلة
وللبخل خير من سؤال بخيل
وقال أبو الأسود الدؤلي: (لو أطعمنا المساكين أموالنا لكنا أسوأ حالاً منهم) وقال لبنيه:
(لا تطيعوا المساكين في أموالكم، فإنهم لا يقنعون منكم حتى يروكم مثلهم).
والله الموفق والمعين.