د. محمد بن إبراهيم الملحم
النوع الأول من اتجاهي التغيير وهو التغيير من الأعلى إلى الأسفل لا يستخدم إلا إذا كان مطلوباً أن يتم بسرعة وفي نفس الوقت يكون التأثير السلبي على المستفيدين قليلاً أو متوازناً بمعنى وجود مكاسب مقابل الخسائر، وينبغي له أن يكون من النوع الذي لا تؤثر على مساره مقاومة التغيير فلا يكون القرار قائماً على تعاون المنفذين وإيمانهم بمقتضياته أو على فهم عميق له، وإن كانت مسألة الفهم قابلة للحل من خلال التدريب المكثف والتوعية المنتشرة إلا أن ذلك يكاد يكون تحقيق نتائجه مستحيلاً إذا كان نطاق التطبيق ضخماً وكبيراً جداً كما هو في حالة وزارة التعليم مثلاً، وكمثال لذلك قرار التقويم المستمر الذي لن يكون بمعناه ومنطقه المقصود إلا بممارسة صحيحة من المنفذين، وهو ما لم يحدث ليس لأنه طبق بتدريب متواضع بل أدهى من ذلك فلم تكن هناك تهيئة كافية وطبق بأدوات محدودة في البداية مما نجم عنه عدم قبول لعدم فهمه واستيعابه من جهة المجتهدين ومن جهة المتهاونين الراغبين في الراحة تعمدوا تشويش فكرته ليتم تنفيذه بطريقة شكلية أفرغته من معناه الحقيقي الذي لم يكن ليحصل سوى ببذلهم جهداً أكثر ويكون مستمراً طوال العام (تقويم مستمر!) بل اكتفوا بتطبيق تقويم «شفهي» في أوقات محددة معروفة! ثم تدرج هذا المفهوم الغالط إلى أنماط أخرى لا تزال إلى اليوم لاتحقق روح التقويم المستمر، والآثار السلبية لسوء التطبيق ملموسة اليوم في أجيال الطلاب التي طبق عليها التقويم المستمر والتي وصلت إلى الجامعات بل تخرجت أيضاً وربما أصبح بعضهم معلمين!! التقويم المستمر تغيير كان يجب أن يحدث من الأسفل للأعلى بطريقة التغيير المخطط.
النوع الثاني (من الأسفل للأعلى) ومع أنه يحتاج وقتاً لنضج التطبيق إلا أنه عميق الأثر لذلك تميل أغلب كتابات التغيير إلى هذا النوع وتدعو إليه، ولا شك أن القبول بخسارة التأخير الزمني في هذاالنوع أفضل من القبول بخسارة الجودة النوعية التي يجلبها النوع الأول وإن كان أسرع، التوازن بين النوعين يكون باختصار الفترة الزمنية قليلاً من خلال تطبيق التغيير المخطط له من الأسفل للأعلى مع وضع محفزات وأساليب تشجيع تسرّع من تبني الأفراد للتغيير الجديد الذي يأتيهم بطريقة «غير رسمية» وغير ملزمة، وهدف ذلك هو تسريع نشر المهارات والإيمان بها خاصة مع تكريس كثافة التدريب وحملات التوعية، الأمر الذي سينشر ثقافة التغيير الجديد بطريقة ناعمة ومتوازنة، وحتى لو لم يؤمن بالتغيير الجديد أو يطبقه إلا خمسون بالمائة من الأفراد فعندئذٍ يمكن الانتقال إلى خطوة إصدار القرار الرسمي لأن النسبة الموجودة كفيلة بنشر حسن التطبيق ورعاية تبني القرار لدى البقية. ويلاحظ هنا أن مثل هذا النوع من التغيير قد يكون مكلفاً لأنه سيبدأ غير رسمي مع الصرف عليه بحملات توعية وتدريس وربما تأمين مواد وأدوات، ولكنه يستحق هذه التكاليف لأنه مسار جيد التأثير وموثوق النتائج من الناحية النوعية، ولا يتقن تطبيق هذا النوع إلا القياديون الملهمون والمتعاملون مع إدارة التغيير بروح «المؤسساتية» Institutionalization لا بروح الفردية والبطولة المطلقة، ففي هذا النوع يرغب القائد أن يكون هو شخصياً بطل التغيير ويشار إليه بالبنان فيلجأ للتغيير بقوة السلطة من الأعلى للأسفل غير مكترث للسلبيات وإنما متطلعاً إلى «أية بوادر» لنتائج التغيير ليطير بها إعلامياً، بل إن بعضهم يتكلم بمنطق «عنز ولو طارت» بينما القيادي المؤسساتي لا يتطلع إلى أن يحصد هو شخصياً تلك النتائج وإنما هو يفخر بكونه «زرع بذرتها» ورعاها في باكر وقتها وسواء أدرك حصادها أو كان غيره الذي يكون في وقت حصادها فالمستفيد عنده هو «المؤسسة» ذاتها. ويجب أن نذكر هنا إن أبشع ما يمكن أن يحدث هو أن يقوم القائد الجديد بقمع الأفكار التغييرية السالفة والتي لم تنشأ في عهده ليضع مكانها غيرها فيحتفل هو شخصياً بها، وهذا ما يدمر المؤسسات ويأخذها للخلف دهوراً لا سنين فقط، وخاصة في المنظمات التي يكثر تغيير قادتها عبر سنوات محدودة فقط، وهو أمر مشاهد لم يعد محتاجاً إلى منظرين مثلي يسردونه ويشرحونه.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً