مع كل اقتراب موسم الحج تعود بي الذاكرة إلى تلك الأيام الجميلة التي كُنا نعيشها ونحن نُقدِّم الخدمة لضيوف الرحمن في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة الذين أتوا من كل فج عميق من خلال مُشاركتنا في معسكرات الخدمة العامة التي تُقيمها جمعية الكشافة العربية السعودية كل عام منذُ أكثر من ستة عقود، اصطفاني المولى عزَّ وجلَّ أن أكون مُشاركاً في أعوام عديدة فيها منذ كنت طالباً حتى اليوم، وخلال تلك الفترة قابلت وتتلمذت وتعلّمت من قياداتي الكشفية الكثير، الذين أخذوا بيدي إلى طريق العلم والتطوع والإيثار والمبادرة وحب الخير للآخرين، ووضعوا أقدامي على سلم النجاح في الحركة الكشفية، ومن هؤلاء القادة شاكر محمد أمين عثمان رادين، الذي ولد في مكة المكرمة عام 1372هـ، وأحيل إلى التقاعد الرسمي عام 1432هـ، حيث كان خلال الفترة التي عملتها معه سواء ككشاف، أو قائد كشفي مثالاً للقائد المتميز بحرصه الشديد على تحقيق أهدافه، من خلال فريق العمل معه الذين يتحركون قبل وأثناء وبعد موسم الحج باتجاه محدد ومخطط له، يشدك خلال تلك العملية بشخصيته المؤثرة، ومهارات القيادة التي يمتلكها لإدارة تلك الفرق التي تكون أحياناً موزعة على عشرة مواقع في مكة المكرمة وفي منى وعرفات، بقدرة ذهنية لم نكن نستغربها منه وهو المتخصص في الرياضيات والفيزياء، التي لم يكن أسيراً لها هي فقط، بل إنك عندما يتحدث معك تجد نفسك أمام شخصية تمتلك فهماً عاماً وثقافة واسعة.
لقد كنا في معسكرات الخدمة العامة نمر بساعات عصيبة يثقل فيها العمل وتزداد الضغوطات، وكان هو وأمثاله من نستمدُّ منهم بعد عون الله العزم والعزيمة والحماس والإصرار، فهم خلال تلك المرحلة تجدهم أصحاب إقدام ومبادرة وشجاعة وهمة الأمر الذي يجعلنا نقتدي بهم ونكون من خلفهم في تحقيق الأهداف التي أتينا من أجلها والتي وضعتها جمعية الكشافة لخدمة ضيوف الرحمن، حتى أننا لنعجب من مهاراته الاجتماعية بتقديره الملحوظ لمشاعر الآخرين ولميولهم واحترامه لها، كما كنا نعجب من قدراته الإدارية سواء في التخطيط والتنظيم والتوجيه والتحليل والنظرة المستقبلية، أو تقييم العمل وزملائه واتخاذ القرارات، فضلاً عن تركه لصغائر الأمور لمساعديه، واهتمامه وانغماسه بالأزمات الكبيرة حال معرفته أو زملائه بالميدان لها وأن لها أثراً في العمل.
في السنوات الأخيرة من عمله الوظيفي كانت الجمعية تثق في خبرته وحنكته ثقة كبيرة، حتى أنها أسندت إليه أصعب المهام والتي تتمثّل في عملية مسح المشاعر والتي يعتمد عليها في إصدار الخرائط وإرشاد التائهين، وتمر بثلاث مراحل، المرحلة الأولى «الإعداد والتجهيز», حيث يتم فيها تجهيز الخطة، ووضع برنامج المسح للوحدات على المناطق لمشعري منى وعرفات، لكي تتمكن وحدات الكشافة من مسح مربعات الأراضي في المشاعر على فترتين صباحية ومسائية, وتجهيز ملفات الوحدات والأخصائيين ومراجعة الخرائط والشرائح مع الواقع الميداني وتعديلها حسب ما يطرأ من إحداثيات جديدة، والمرحلة الثانية «المسح»، حيث تقوم الوحدات المشاركة في المعسكرات بعملية المسح لمشعري منى وعرفات، وتوثيق المعلومات في كراسة المسح على فترتين صباحية ومسائية، ومن ثم تقيّم هذه البيانات وتطابق مع بيانات المؤسسات الحكومية ومؤسسات الطوافة، فيما يتم في المرحلة الثالثة إصدار الدليل الإرشادي والخرائط العامة والشرائح بعد التأكد والمراجعة.
وكانت تلك المهمة التي هي لب العمل الكشفي وقلبه في الحج، امتحان لأية قائد كشفي، والتي لم تكن جمعية الكشافة تختار لها إلا نوعية خاصة من القيادات الكشفية عليها أن تكون بمواصفات وسمات شاكر رادين، الذي كانت لديه في تلك المهمة قدرة على إنجاز الأولويات، وتحمل المسؤولية، وتعقل في اتخاذ القرارات الصعبة، والعمل بدافع الإبداع بتفان وحنكة وهدوء واتزان في معالجة الأمور وحماس مُلهم والتزام وعطاء كبير، ومرونة وسعة أفق، يتجنب الأنانية وحب الذات، وإعطاء الفرصة للآخرين من مرؤوسيه لإبراز قدراتهم، كما كان يتوخى العدالة وتجنب الاستئثار بالرأي.
وأمام هذا العطاء المتدفق منحته جمعية الكشافة الوسام الكشفي الذهبي، الذي يُعد أعلى وسام كشفي سعودي، وذلك في الحفل الذي رعاه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله - عام 2006 عندما كان أميراً لمنطقة الرياض وذلك بمركز الملك عبدالعزيز التاريخي.
واليوم هو أحد القيادات الكشفية التي يستمد منها جيل اليوم العطاء والاستفادة من ما قدمه من خلال استشارته في كثير من الأمور رغم التطور التقني، إلا أنه معرفته الكاملة لأدق التفاصيل في المشاعر المقدسة تجعل كل من أوكلت له المهمة من بعده يستأنس برأيه وخبرته.