منصور ماجد الذيابي
قد يحدث أن يطول وقت النّقاش بين الأفراد، ويصل إلى حدّ التراشق بالألفاظ المسيئة،وقد يتطور هكذا تراشق إلى حدّ الاشتباك بالأيدي وثم وصول الأزمة إلى مستوى يصعب معه فضّ الاشتباك بسبب التّوتر المتصاعد بين الأطراف المتخاصمة. وعلى غرار «قواعد الاشتباك العسكري» فإن للاشتباك اللفظي أيضا قواعد وأصول ينبغي الالتزام بها والحرص على تطبيقها لكي يتسنّى لطرفي الحوار التحكّم في الأعصاب والسيطرة على الموقف قبل أن يتفجّر ويتحول إلى عراك ملحمي لربما أدّى إلى تداعيات خطيرة وعواقب وخيمة ليس على الطرف الضعيف فحسب وإنما حتى على المنتصر في هذا الصراع كذلك.
وحينما يتطوّر الاشتباك بالألسن إلى اشتباك بالأيدي والأسنان،فإن الطرف الضعيف في ميزان القوّتين اللفظيّة والبدنيّة قد يسقط أو يطلب الدّعم والمساندة من أياد أخرى لمساعدته على المواجهة المحتدمة قبل الوصول إلى مرحلة الانهيار التّام أمام الخصم العنيد الذي تفوّق عليه في ساحة الاشتباك الدّموي.
وهنا،وبعد دخول عناصر أخرى في دائرة الصراع، فان الأمر قد يأخذ منعطفا خطيرا ويزداد سوءا وتعقيدا وتأزّما نتيجة لاتّساع دائرة الصراع وثم وقوع ضحايا آخرين من بينهم بعض الدّاعمين الذين شاركوا في الاشتباك بقصد تفريق المتظاهرين وفضّ الاشتباك بين الأطراف المتصارعة.
ولهذا فإن عدم الالتزام بقواعد الاشتباك اللّفظي ستفضي حتما إلى ملحمة تسفك فيها الدّماء وتكسر فيها الجماجم والسواعد،ومن المحتمل أيضا أن يلقى أحد طرفي النزاع أو كلاهما حتفه أو يتعرض أي منهما إلى إصابات بليغة لعدم قدرتهما على التّحكم مسبقا بسيل الألفاظ القاسية،أو لإخفاق أحدهما أو كلاهما في القدرة على ضبط النفس منذ نشوء مرحلة الحرب الكلامية بينهما.
لذلك، ومن خلال مشاهداتي وتجاربي في الحياة،فإني أرى أن الاستمرار في الجدل العقيم مع الآخرين لا ولن يؤدّي الاّ إلى مزيد من تصعيد التّوتر وحرق الأعصاب حتى وصول الذّات الإنسانية إلى مستوى الغليان العاطفي ما يجعل النفس تميل إلى ارتكاب الإساءة بأدوات ووسائل الشّر المختلفة وثم حدوث الانفجار العصبي المؤدي لارتكاب الجرائم واشتعال الحرائق.
كل هذا التطور تتمخّض مراحله الأولية عن أمور تافهة تؤدّي إلى خلاف بسيط يمكن للأطراف كبحه وتخفيف حدّته قبل أن يتشعّب ويتعقّد. ومن الطبيعي أن يكون للخلافات البسيطة مقوّمات النمو التي تجعل منها مهلكة مستقبلية تتّسع دائرتها شيئا فشيئا حتى تصل إلى المستوى الذي يحدث عنده إصابات أو وفيّات لا سمح الله.
يقول ابن القيّم الجوزية في مطلع قصيدته:
كُلُّ الحوادثِ مَبْدَاها مِنَ النّظَرِ
ومُعْظمُ النّار مِن مُسْتَصْغَرِ الشّررِ
والمرءُ ما دَامَ ذَا عَينٍ يُقَلّبُهَا
في أَعْيُنِ الغِيْدِ موقوفٌ عَلى الخَطَرِ
كَمْ نَظرةٍ فَعَلَتْ في قَلْبِ صَاحِبِها
فِعْلَ السّهَامِ بلا قَوْسٍ ولَا وَتَرِ
يَسرُّ نَاظِرَه مَا ضَرَّ خَاطِرَه
لَا مَرْحَباً بِسُرورٍ عَادَ بالضَّرَرِ
من كل ما سبق، ولأجل تجنّب الوقوع في أجواء التلاسن اللّفظي الملبّدة بطبقات من الحقد والضّغينة فان الحكمة تكمن في عدم مجاراة الأشخاص الذين يسعون لفرض وجهات نظرهم بانفعال وغضب وهجوم لفظي متكرّر يهدف إلى استفزاز الطرف الآخر للتورّط في مستنقع المواجهة والمصارعة أو لدفعه إلى الاستسلام والصّمت.
كما أن الشخص الحكيم هو من يسعى دائما لتفادي الرّد أو التعليق على مناقشات الأشخاص مثيري الشغب في المجالس وأماكن العمل أو حتى في الأماكن العامة. واذا ما وجد المفاوض أو المتحاور نفسه في مرحلة يصعب معها الانسحاب والتّراجع إلى الوراء فإن عليه الدّفاع عن نفسه مع الالتزام بقواعد الاشتباك اللّفظي لضمان عدم انزلاقه في نفق التراشق اللفظي،ومن ثم صعوبة إيجاد مخرج طوارئ آمن يضمن له البقاء بعيدا عن مصادر الخطر.
ومن هذه القواعد العامة على سبيل المثال وقوف الشخص على الحياد أثناء المناقشات المستعرة،أو اختيار الألفاظ المناسبة التي لا تسهم في إشعال فتيل المناقشة بين المتحاورين. وكذلك محاولة امتصاص غضب الشخص المهاجم باختيار الألفاظ اللطيفة التي لا تثير السخط والاستياء.
وأخيرا. فإن من أفضل قواعد الاشتباك هو التّوقف والانسحاب من مسرح الصراع اللّفظي للتقليل من حدّة النّقاش الأمر الذي من شأنه المساعدة في إخماد الحريق قبل وصوله لمرحلة يصعب معها إطفاء ألسنة اللهب المشتعلة. ولذلك فإن علينا اتّباع هذه القواعد العامة صونا للنفس من الأذى وسموّا بالروح الإنسانية عن «مستصغر الشّرر» ومكمن الضرر.
يقول الإمام علي بن أبي طالب:
صُنِ النَفسَ وَاِحمِلها عَلى ما يزيِنُها
تَعِش سالِماً وَالقَولُ فيكَ جَميلُ
وَلا تُرِينَّ النّاسَ إِلّا تَجَمُّلاً
نَبا بِكَ دَهرٌ أَو جَفاكَ خَليلُ