د.عبدالله بن موسى الطاير
صديق عزيز، حي يرزق، قص علي حكايته، وأنا أثق بروايته؛ تقدم لوظيفة قبل نحو 30 عاماً، ولم يقبل فيها رغم أنه مؤهل، وجاء إليها بواسطة من العيار الثقيل، فانقلب إلى شقته البائسة في أحد أحياء لندن الفقيرة المخصصة للطلاب والعاطلين. أبت كرامته أن يعود إلى واسطته يطلب منها معاودة التدخل، واغلقت أمامه منافذ الأمل. وبينما هو يندب حظه العاثر، أضاء له القدر في عتمته نورا، فسأل نفسه: إذا كان الله أقرب لي من الواسطة، وأعلم بحاجتي من الساعين في مساعدتي، وبابه مفتوح لي بدون واسطة، فلماذا لا أجرب اللجوء المخلص إلى الله؟. اغتسل وصلى ركعتين، يقول لي إن ملامسة جبهته الأرض بثت في نفسه شعورا بالقرب من الله لم يعهده من قبل؛ دعا الله بإخلاص ويقين، فاستجاب الله الدعاء، وبدلا من انتظار يوم الاثنين لعله يأتيه اتصال، جاء ذلك الاتصال السبت، وذهب للمقابلة مرة أخرى وقبل في الوظيفة، ومن يومها وهو لا يزال يعمل في الشركة نفسها، ويحوز ثقة الرؤساء والزملاء.
الشاهد في هذه القصة الحقيقية أننا أحيانا كثيرة نتعلق بالبعيد، ونبحث عما هو خارج قدرتنا، لعل شيئاً ما يحدث لنا كما نحب ونرضى. نغفل ما هو أقرب، ونتجاهل مؤشرات بدهية لصالح أوهام أو أمنيات كلفتها الوقتية والمادية باهظة وغير مضمونة. ومن أكثر ما ينفق عليه الناس الأموال والجهد ويسافرون من بلد إلى آخر بحثاً عنه هو السعادة. على اعتبار أن مفارقة مكان ما قد يجلب السعادة، وقد سبق إلى ذلك خالد الفيصل بقوله:
أسافر عنه من ديره لديره
عساي اسلاه لكن ما حصل لي
البعد والسفر، والنقل بحثاً عن السعادة أو النسيان أو جبر الخاطر، ليس صنيعة اليوم، بل هو عرف متوارث، لكن القليل هم الذين يدركون أن السعادة والنسيان إنما هي حالة ذهنية، بواعثها داخلية وليس نتيجة ظروف خارجية. يقول عمر الخيام «كن سعيدا هذه اللحظة، فهذه اللحظة هي حياتك»، وذلك يعني أن السفر ليس بالضرورة أن يوسع مداها ويزيد فاعلية السعادة، بل على العكس من ذلك فالسفر قطعة من نار ولو قصر. ولذلك قال آخرون إن السعادة أقرب ما تكون لنا، فهي تعتمد «على جودة أفكارك، لذلك، احترس.. واحرص على عدم التفكير في أي مفاهيم غير مناسبة للفضيلة والطبيعة المعقولة». وبمفاهيم المعاصرة «كن إيجابياً»، واترك للمحفزات الداخلية أن تنفث فيك طاقتها، وأن تمنحك سعادة ذاتية لا يمكن لك شراؤها ولا السفر طلبا لها، ولا حتى امتلاكها بثروتك. فالسعادة عند دينس واتلي «لا يمكن نقلها، أو امتلاكها، أو اكتسابها، أو ارتداؤها، أو استهلاكها، السعادة هي التجربة الروحية لعيش كل دقيقة بالحب والنعمة والامتنان».
في مواقف كثيرة عندما يطبق علينا ليل التعاسة، نسأل أنفسنا: ماذا ينقصنا لنكون سعداء، وإذا كانت السعادة تتحقق بالنظر لمن هم أقل منا إمكانات، فلماذا يرتد البصر بعد هذه التفكر وهو حزين، في حين كان المفترض أن يسعدنا حالنا الأفضل ممن هم دوننا. تقول مارثا واشنطن « لقد تعلمت أن الجزء الأكبر من بؤسنا أو تعاستنا لا يتحدد بظروفنا، بل بشخصيتنا».
كم من قارئ يتمتم أن هذا تنظير لا يمت للواقع بصلة، لكن من تجربتي ومن تجربتك، كم من صديق حولنا أعياه العوز وضيق ذات اليد، وإذا التقيته فكأنه أسعد الناس، كأن لم تمر به ضائقة قط. هؤلاء من حولنا كثير، ففي حين نتأبط شرا أننا لم نحسن اختيار وجبة فارهة، تتملكهم السعادة أنهم يتنفسون وقادرون على التبسم. الفارق بيننا وبينهم أنهم لا يفكرون فيما وراء اهتمامهم وقدرتهم، بينما نحن مشغولون بأوكرانيا، وأرمينيا، ومقتل شينو آبي، وتنحي بوريس جونسون، وأزمة الامدادات الغذائية القادمة، وتقلبات كورونا وجدري القردة، الخ مما لا نملك مقدار قطمير في التحكم في مآلاته. بينما كثير من السعداء المعوزين من حولنا لا يخطر ببالهم شيء من ذلك، فامتلاكه ثمن كأس الشاي الذي بيده كفيل بإدخال السعادة على قلبه.
يقول أحدهم: «هناك طريقة واحدة فقط للسعادة وهي التوقف عن القلق بشأن الأشياء التي تتجاوز قوة إرادتنا»، ويصورها إيليا أبو ماضي شعراً في أبيات منها:
قالَ التِجارَةُ في صِراعٍ هائِلٍ
مِثلُ المُسافِرِ كادَ يَقتُلَهُ الظَما
أَو غادَةٍ مَسلولَةٍ مُحتاجَةٍ
لِدَمٍ وَتَنفُثُ كُلَما لَهَثَت دَما
قُلتُ اِبتَسِم ما أَنتَ جالِبَ دائِها
وَشِفائِها فَإِذا اِبتَسَمتَ فَرُبَّما
أَيَكونُ غَيرُكَ مُجرِماً وَتَبيتُ في
وَجَلٍ كَأَنَّكَ أَنتَ صِرتَ المُجرِما