عبدالرحمن الحبيب
من أنا؟ سؤال يثير قلق الكاتبة الأمريكية مود نيوتن، فأسلافها أزعجوها بحكايات تاريخهم منذ أن كانت طفلة.. جدها لأمها تزوج 13 مرة أحدها من امرأة أطلقت عليه الرصاص في بطنه. وقيل إن جد أمها قتل رجلاً بخطاف قش.. (اكتشفت أنه كان دفاعاً عن النفس) وأنه فقد عقله من الحزن وتوفي في مصحة.. تغلغلت الأمراض النفسية والتعصب الديني في جداتها وأمها.. لويز شقيقة جدتها توفيت في مصحة عقلية بعد أن رقصت عارية في الشوارع.. أحد أسلافها متهم بأنه ساحر، أما والدها فقد كان مهندس طيران وتحول إلى محامٍ محترم، لكنه عنصري يمتدح فضائل العبودية وكان مهووسًا بـ«نقاء» دم سلالة عائلته، وكان طلاقه من أمها راحة لها.. لكنها تعرضت للتحرش من قبل زوج أمها في سن الثانية عشرة...
صدر مؤخراً للكاتبة مود كتاباً بعنوان «مشكلة السلف» (Ancestor Trouble) أرادت به البحث عن أسلافها وشجرة عائلتها ليتحول عملها إلى تحقيق في علم الأنساب نفسه. صحيح أن علم الأنساب قديم معروف لكنه مع تطورات علم الوراثة والتكنولوجيا الحيوية تحول من علم متخصص ليصبح صناعة بمليارات الدولارات، لشركات تحظى بشعبية متزايدة (مثل 23andMe، وAncestryDNA) تمارس به الجمع بين البحث التقليدي في تاريخ العائلة واختبار الحمض النووي مُدعية أنها تكتشف الجينوم الخاص بعائلتك والقدرة على تحديد علاقاتنا ببعضنا البعض على أساس «شجرة العائلة الجينية».
مود تنتقد تلك الشركات ومخاطر البحث عن إجابات في جيناتنا، وتوضح كيف أن تحليلاتهم معيبة بشدة ومضللة.. فرغم أهمية علم الوراثة، لكنه لا يحدد ما سنرثه وما لن نرثه لأنه تكوين معقد متشابك من الجينات والتجارب الفردية والأدلة والحكايات والحوادث القريبة والبعيدة تنتج عنه إجابات احتمالية تولد مزيداً من الأسئلة..
من هم أسلافنا بالنسبة لنا، وما الذي نأخذه منهم؟ ماذا تخبرنا شجرة العائلة عن صفاتنا الظاهرية والسلوكية والنفسية؟ هل السلوكيات المؤذية أو النافعة التي قام بها بعضهم يمكن أن نكررها لأنها كامنة في جيناتنا؟ وإذا كان ذلك محتملاً فما الذي يمكننا فعله؟ هل نعيد اختراع أنفسنا؟ ماذا يخبرنا علم الأنساب عن هويتنا وماضينا القومي أو من أين أتينا؟ أم أن كل ذلك مجرد احتمالات لا نهائية ولا جدوى منها لأننا لن نصل لنتيجة ذات معنى، فضلاً عن أننا قد لا نميز بين الحقيقي والخيالي في قصص تروى عن أجدادنا..
الكتاب يدمج المذكرات والنقد الثقافي، تستكشف فيه الباحثة الأبعاد الثقافية والعلمية والروحية للأسلاف، وهو موضوع غارق في التخمين وشوق اجتماعي دائم تسميه الكاتبة «جوع للأسلاف» وتوقيرهم.. وتجد أن هوسنا بأسلافنا يفتح طرقًا جديدة لرؤية أنفسنا.. فقد سعت الكاتبة إلى كشف الحقيقي من الخيالي حول عائلتها الأمريكية الجنوبية الغريبة الأطوار، وبحثت عن أسرار الأسرة من خلال حمضها النووي.. منغمسة في قصاصات الأخبار القديمة وأرشيفات التعداد السكاني والسجلات الحيوية، والرسائل، والمحفوظات الأخرى ومطابقات أبناء عمومتها.. أخذتها رحلتها إلى مجالات علم الوراثة والجينات والنقاشات حول الصدمات بين الأجيال وبين الحداثة والتقاليد..
بحث مود عن الحقيقة في قصص أسلافها تحول إلى كتلة من الآلام وهي تتعقب وتواجه «الوصايا الوحشية» للعنصرية، من أسلافها الجنوبيين الذين استعبدوا الناس إلى أسلاف شماليين ساعدوا في طرد السكان الأصليين من قراهم في غرب ماساتشوستس. وجدت مود تاريخًا من استعباد البشر «بالمئات، إن لم يكن الآلاف» عبر شجرة عائلتها الأبوية.
«هناك جرح يحتاج إلى علاج في أصل الكثير من الفن»، مقولة اقتبستها المؤلفة التي كانت تشبه والدها بالشكل والمشية والتحدث، لكنها بعيدة عنه منذ عشرين عاما لأنه كان شديداً معها عندما كانت طفلة يوبخها كثيراً ويضربها لأسباب تافهة ويعاقبها إذا حصلت على معدل جيد جداً.. وعاقبها مرة لمشاهدتها «شارع السمسم» لأنه ظهر فيه أطفال سود وبيض يلعبون معًا.. وطمس وجوه الأطفال السود في الكتب المصورة. كان بحث نيوتن في علم الأنساب، جزئيًا، طريقة لحساب كيف أصبح والدها بهذا النمط. على النقيض من ذلك كانت والدتها «زوبعة من الكاريزما والإبداع والعاطفة.. كالشمس، دافئة واهبة للحياة».
اعتقدت مود بأن تتبع خطوط أسلافها إلى الوراء بعيدًا بما يكفي قد تحمل إجابات على لغز التفاعل بين ما نرثه وما يميزنا كأفراد، بين الموروث والفردية، تقول: «إذا تعمقت بما فيه الكفاية، إذا قمت بفحص النتائج التي توصلت إليها بجدية كافية وطويلة بما يكفي، قد أفهم لماذا أصبحت والدتي واعظة وأنا كاتبة ولم يكن والدي قادرًا على أن يحبني بطريقة أبوية عادية».
لكن مود لم تحل هذا اللغز! فما الذي حصلت عليه؟ ربما هناك شيء صوفي وغير قابل للتفسير حول الهوية، كما تقترح مود.. واسمها الحقيقي ريبيكا أما «مود» فهو اسمها المستعار أخذته عن عمتها الكبرى التي تكن لها عاطفة جياشة لتصبح عمتها مود حجر الأساس، «روح العشيرة»، حكيمة، مناضلة، وربما نسوية! إلا أن مود تناقش التفاعل بين الطبيعة والتنشئة، بين التجربة الفردية والصفات الموروثة، والنتيجة المؤكدة أنك لن تحصل على إجابة واضحة، بل على مزيد من الأسئلة..