منصور ماجد الذيابي
نعلم جميعاً أن الفكر الإنساني «غير الحكيم» عادةً ما يلجأ إلى تطبيق العقوبات كوسيلة ردع أو ورقة ضغط تسمح له وفقاً لتصوراته بالخروج ولو مؤقتاً من حالة الجمود الفكري إلى حالة من الفوضى الفكرية التي يعتقد أنها ستحقق له البقاء في الصدارة على أنقاض العدالة والأمن والسلام والاستقرار, ناهيك عن نشاط الفكر الإنساني غير الحكيم في اللجوء إلى فرض القوة أحياناً لإنتاج أزمات يرى هذا الفكر أنها قد تسهّل له الوصول إلى بصيص النور الذي يتراءى لهكذا فكر أنه يتسلّل من نهاية النفق المظلم, غير أن نشاطاً فكرياً كهذا لا ينتج عنه سوى مزيد من التخبّط في طبقات أكثر حلكة من الظلام الدّامس المسبّب لاستمرارية وقوع العثرات ثم الويلات فالنكبات والأزمات.
وهنا أتساءل عمّا إذ لا يزال الفكر الإنساني يتّخذ من الفكر الحيواني ما يعتقد أنه سيحقّق للعالم الهدوء والاستقرار, ويسهم في ضمان المحافظة على الأمن الغذائي العالمي لأجيال قادمة تتوقع وتأمل وتتطلّع إلى أن يكون من أبسط حقوقها توفّر الغذاء والعيش بسلام على كوكب الأرض المتّقد بالثورات والصراعات وتطبيق العقوبات كنتيجة حتمية لفشل الفكر الإنساني في إيجاد بارقة أمل لعثراته وأوجاعه المزمنة؟!
كما نعلم جميعاً أن العقوبات لا تُفرض من جانب الدّول والمنظمات أو الأنظمة السياسية والتكتّلات الاقتصادية فحسب, وإنما تفرض حتى على مستوى الأسرة والأفراد وأطقم العمل والتعليم في المؤسسات التعليمية والمهنية كذلك. فالمعلم في المدرسة يفرض أشكالاً متعدّدة من العقوبات على بعض من تلاميذه, كأن يلجأ للخصم من درجات السلوك والاختبار أو يستخدم وسيلة العصا بدلاً من «الجزرة» مثلما كان سائداً في الماضي البعيد, أو حتى حرمان التلاميذ من أداء الاختبار في الماضي القريب والحاضر والمستقبل.
وعلى غرار ما تفرضه الدّول الكبرى من عقوبات اقتصادية, نجد كذلك أن الوالدين في الأسرة الصغيرة يستخدمان أيضاً في التربية أسلوباً عقابياً سواء بإيقاع العقوبة الجسدية على الأطفال أو بالتوقف عن تقديم الدّعم المالي والغذائي لهم, فضلاً عن فرض عقوبات مالية ومعنوية أو حتى عقوبات عاطفية متبادلة بين الزوجين كمعاقبة الزوج لزوجته تعنيفاً وتوبيخاً وإيقافاً للنفقة, وربما انفصالاً وطلاقاً وهلاكاً.
هذا الفكر العقابي ليس جديداً وإنما يعود إلى حقبة نشأة الخليقة, ومنذ أن فهم الإنسان البدائي طبيعة قانون الغابة وكيفية التعامل مع النّزعة إلى البقاء والسيادة في الفكر الحيواني المتشدّد. وما ذكرت في هذا المقال ليس غريباً أو جديداً. فمثال ذلك ما آلت إليه الحرب الروسية على أوكرانيا عندما فرضت الدول الأوروبية وأمريكا سلسلة من العقوبات الاقتصادية الصارمة على روسيا التي فرضت هي الأخرى عقوبات اقتصادية تطال العالم بأكمله وتتمثّل في تعطيل وإيقاف سفن الشحن لمنعها من تصدير الحبوب الأوكرانية لمناطق واسعة من العالم لأجل خلق أزمة غذاء عالمية بهدف أن تبقى روسيا الدولة ذات التأثير الأقوى وذات السيادة المطلقة على جميع دول العالم اقتصادياً وعسكرياً ونووياً.
هذه النّزعة في الفكر الإنساني «غير الحكيم» تتمركز كذلك في الفكر الحيواني الذي يعتمد في نشاطه على فرض العقوبات بكل أشكالها وأساليبها. فالأسود والنمور والصقور تفكر أيضاً بهذا المنطق الحيواني العجيب الذي يتراءى لهذه المخلوقات أنه الوسيلة المثلى للبقاء على كوكب الأرض بكل عناصر تفوّقها وبكامل سيادتها المطلقة حتى وإن أدّى ذلك إلى فناء المخلوقات جميعاً على كوكب الأرض.
من كل ما ذكرت, أتساءل وأقول متى يمكن للفكر الإنساني «الحكيم» أن يكتشف آفاقاً فكرية جديدة يمكن من خلالها لكل المخلوقات أن تعيش بسلام ووئام وعدالة وأمن غذائي ومائي يزيل عن كاهل الأمم شبح المجاعة والبشاعة والظلم والمآسي؟!.. كما أنني أتساءل من خلال هذا المنبر الصحفي عمّا إذا يكون بمقدور حكماء الفكر الإنساني في هيئة الأمم المتحدة والعالم أجمع البحث عن الحلول واكتشاف المجهول للتوصل لطرق يمكن من خلالها إلقاء القبض على تلك النمور والصقور والأسود والزّج بها في مراكز علاجية لأجل أن تُخضع عقولها لتجارب طبية قد تسهم في تحولها من الفكر الحيواني السقيم إلى الفكر الإنساني السليم, وترفع مستوى التفكير لديها من المستوى الحيواني الهابط إلى المستوى الإنساني الرفيع!!. فنحن من حقّنا أن نعيش على كوكب الأرض بكرامة وسلام دون أن نفرض أو يُفرض علينا عقوبات ويعرض أمامنا أشباحاً لأزمات غذائية وأمنية وفكرية.
يقول المتنبي في الحكمة:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
وكذلك يقول الإمام الشافعي في الحكمة:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
و نهجو ذا الزمان بغير ذنب
ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضاً عياناً