حصة التويم
أيام عشر ذي الحجة أيام عظيمة تتجلى فيها الخيرات، وتتضاعف فيها الحسنات، ولعظم فضلها أقسم الله عز وجل بها في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، وهي أحب الأيام إلى الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل أيام الدنيا أيام العشر»، لأجل ذلك يكثر التذكير بفضلها والحث على عمل الصالحات فيها لأن ثوابها عظيم، ويكثر الحث بترك المعاصي و البعد عن المنكرات لأن ذنبها عظيم.
العمل في أيام العشر يعتبر أفضل من الجهاد قال صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر. قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».
لذا علينا جميعاً استقبالها بعزيمة تدفعها قوة الهمة وصحوة الضمير لتعديل الاعوجاج، واستشعار غربة القلب وغياب الاحتياج الملهم للطاعات في عصرٍ طغى عليه اللهث وراء الماديات وإدمان التقنيات، وانتشار الفتن والاضطرابات النفسية، وكثرة الفجوات بين العبد وربه، وازدياد آفات اللسان من كذب وغيبة ونميمة، وآفات السمع بالإصغاء إلى كل ما حرِّم، وآفات القلب من كِبر وحسد وغيرها، يدفعها كثرة الدعاء بالتوفيق في استعمال الجوارح في فضائل الأعمال التي يجلّلها خالص النية لله عز وجلّ، والإقبال على الله بالتوبة الخالصة من كل شائبة بالندم على ما فات، والتوبة الصادقة التي تنبئ عن ترويض النفس على أداء الطاعات، والبعد عن السيئات، وكثرة التصدق والبذل عند التوبة أرجى في القبول من أكرم الأكرمين كما وردت في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه قوله: قلت يا رسول الله إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال رسول الله: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».
ففي عشر ذي الحجة تتوحد همم المسلمين نحو أداء الطاعات صوم وصدقه ومزيد من الصلوات وذكر وشكر وتكبير وتهليل، وكذلك تتوحد خطوات الحجاج نحو أداء فريضة الحج بقلوب تتقافز شوقاً لأداء الركن الخامس، ونفوس تهفو للميلاد الجديد بعفو ومغفرة وقلوب ترجو القبول وحج مبرور، تتجلى عظمة المشهد في موسم الحج في الوحدة إذ تتوحد القلوب والمشاعر والنوايا نحو هدف واحد وغاية عظمى تتسامى فيها رغبات، وتتسابق فيها أمنيات نحو طلب المغفرة والقبول والعتق من النار في أعظم مكان على وجه الأرض إذ تتجه الأنظار نحو السماء، وتسبقها الأيدي صعوداً بلا استثناء، وتجري منها الدموع سكباً لغسل الروح من كل ذنب نحو عالم الصفاء..
وإذ يعيش الحاج هذا المشهد في أعظم بقاع الأرض طهراً وقدسيّة، وأعظم أيام الدنيا الذي تتجلى به كل أركان الإسلام، فإنه يعيش في وحدة من المساواة، والعدل الرباني الذي تتجه فيه الكلمات والمشاعر في وصف عميق لمعنى الاطمئنان الروحي، ومعنى قوة التوكل على الله والسباق إلى جنته، ومعنى حسن الظن بالله طمعاً بالقبول، ومعنى تجديد التوبة رغبةً بالرحمة، ومعنى قوة الاستغاثة بالتمسك بتلابيب الدعاء، ومعنى الصلح مع الله بكثرة الذكر..
على المسلم أن يجدّد النية بالاستمرارية المثلى، والانقياد الموجّه نحو رضي الله، والحرص على تقوى الله والانتباه لصحوة الضمير الحي، وأن يغرس بذور التوكل على الله وحسن الظن به بكثرة الذكر والشكر في شجرة التوبة، ويتعهدها بسقيا القراءة والتدبر والحفظ للقرآن الكريم.