د. محمد بن إبراهيم الملحم
النوع الثاني من اتجاهي التغيير هو التغيير من الأسفل للأعلى، أي أنه يبدأ من المنفذين وليس من متخذي القرار، وهو على نمطين فقد يحدث بـ»تلقائية» وربما يحدث بطريقة متعمدة و»مخطط لها»، ففي النمط الأول مثلاً يمكن أن تنتشر لدى المنفذين طريقة تسهل عليهم عملهم فيتبعوها ومع مرور الزمن وانتشار هذه الطريقة بشكل كبير عبر كل أجزاء المنظمة وفي كل نواحيها سنجد أن أصحاب القرار وصلوا إلى الإيمان بأهمية هذه الطريقة فعملوا ب «تلقائية» على تقنينها وتأمين ما تتطلبه من مواد واحتياجات، وكمثال على ذلك فإني لازلت أذكر كيف أن كثيراً من المعلمين في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات تأذى من الطباشير ولجأ إلى شراء سبورة بيضاء مع أقلام ملونة على حسابه الشخصي، خاصة أولئك الذين تكون لهم غرفة خاصة بهم يمكن أن يأخذ الطلاب إليها مثل معلمي العلوم حيث يختص أحدهم بالمختبر المدرسي لشرح دروسه ويضع فيه ما يشتريه (على حسابه) من مواد وأدوات، وكذلك معلم المكتبة والبحث أو التربية الفنية وغيرهم ممن ينطبق عليهم نفس المثال، ومع الوقت بدأ المديرون في المدارس التي لديها ميزانية جيدة يوفرون السبورات البيضاء لمعلميهم وكذلك لوحظ أن المدارس الأهلية تستبدل سبوراتها الطباشيرية بسبورات بيضاء حتى انتقلت العدوى للوزارة لتقوم بتأمين السبورات البيضاء في كل مدارسها الجديدة أو تلك التي تقوم بترميمها من جديد، لقد كان هذا تغييراً تلقائياً بدأ من الأسفل للأعلى بكل سلاسة وبالمعنى الحرفي لقوة التغيير في هذا الاتجاه، فلم يذهب أحد لإقناع مسؤولي الوزارة ولم تكتب المقالات والخطابات للمطالبة بالتغيير بل حدث بكل سهولة ويسر، وحتى لو وجدت خطابات فسوف تكون محدودة وبمثابة ما يؤشر إلى الظاهرة ليدل عليها لا ليقنع المسؤولين بمضمونها.
هذا المثال في جانب مادي، ولكن ممكن أن يتكرر في جوانب ممارسات إيجابية مهمة يمكن أن تتحول إذا وصلت للأعلى إلى سياسات Policies فمثلاً ماذا لو كان المعلمون قد تبنوا التقويم المستمر في الصفوف الأولية (بطريقته الصحيحة طبعاً) قبل أن تصدره الوزارة كوسيلة بديلة للاختبارات الكتابية لأطفال هذا المستوى، لا شك أن حسن التطبيق ومنافعه ستلاحظها الوزارة وربما تتبناها لتصدر بها نظاماً يوقف العمل بالاختبارات ويستبدلها بالتقويم المستمر وحينها سيكون التطبيق قوياً لأنه أصلاً نبع من المنفذين أنفسهم، هذا المثال الطوباوي والمغرق في المثالية لا يمكن تحققه لأن ثقافة «أغلب» المعلمين أقل من أن تصل إلى هذا التطبيق وفي نفس الوقت هو إجراء يتعب المعلم ويأخذ من وقته اليومي خلافاً للاختبار الذي سيعمله مرة واحدة بنهاية الفصل الدراسي ويستريح، ولكن هناك إمكانية لأن يحدث وإنما بطريقة «مخطط لها» planned change، بحيث إن الوزارة وضمن نيتها في تطبيق التقويم المستمر تبدأ في نشره بطريقة غير رسمية حتى تتبناه نخبة من المعلمين، وتقوم بتكريمهم سنوياً على «مبادراتهم»، وباستخدام هذا الأسلوب (جنباً إلى جنب مع وجود الاختبارات) سوف يحفز غيرهم إلى اتباعه، ومع الوقت سيزيد العدد وتنتشر معه ثقافة حسن التطبيق لهذا الأسلوب الجديد، وهذا قد يأخذ عدة سنوات، مثلاً 3 إلى 5 سنوات، حتى تنتقل الوزارة بعدئذٍ إلى إقرار النظام الجديد للتقويم المستمر وإلغاء الاختبارات، وحينها سيكون التطبيق قوياً ومستقراً وله جذوره وأساساته الصلبة، ليس ذلك فحسب بل ستكون فترة ترويج الفكرة فرصة لتعديلها وتحسين مثالبها وهو ما لم يتسنَّ للوزارة عندما أطلقت البرنامج مرة واحدة من الأعلى للأسفل دون إدراك لمشكلات التطبيق.
وهذا النمط الثاني من التغيير من الأسفل للأعلى هو عادة «تغيير مخطط له»، والواقع إن التغيير من الأسفل للأعلى بكلا نمطيه (التلقائي والمخطط) يستغرق وقتاً طويلاً ليصل إلى الأعلى وينتقل إلى مرحلة التقنين لكنه تغيير فعال جداً وأقوى وأعمق بكثير من التغيير الرسمي الذي يبدأ من الأعلى للأسفل وإن كان ذلك سريعاً جداً لكنه معرض جداً أيضاً أن ينفذ بأسلوب شكلي مفرغ من قيمه ومنافعه.