عبدالمجيد بن محمد العُمري
فقدت البلاد في الثاني من شهر ذي الحجة لعام 1443هـ علماً كبيراً من أعلام الأدب والثقافة، وهو العلامة الموسوعي المرحوم معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي، وحينما نعزي في وفاته فإننا لا نعزي أهله خاصة إنما نعزي الوطن والعالم الإسلامي في موت رجل فذ نذر نفسه لخدمة الدين، ونعزي الوطن في ابن من أبنائه الأوفياء المخلصين الذين خدموا دينهم ووطنهم ومجتمعهم لعقود من الزمن، ونعزي العلم والثقافة في فقد الأديب والكاتب والمؤرخ والجغرافي الموسوعي.
ولا يستطيع المرء مهما أوتي من سحر البيان أن يلم بسيرة ومسيرة الفقيد، فسجله حافلٌ بالمآثر الحميدة والمواقف المجيدة والأعمال الجليلة.
فهو صاحب المؤلفات الكبيرة والبحوث الغزيرة التي طار بها ذكره في الأقطار واشتهرت اشتهار الشمس في رابعة النهار، كيف لا وقد زار ما يزيد على مائة بلد من بلدان العالم، وتجول في المشرق والمغرب وألف عنها ما يزيد على مائتي كتاب في الرحلات، خلاف مائة كتاب وبحث آخر، وكان عالماً موسوعياً وكتب في شتى الفنون والعلوم، وأحاط بمعظم ميادين الثقافة من علمية إلى تاريخية إلى أدبية واجتماعية وكان- رحمه الله- كثير القراءة والاطلاع خصب الإنتاج.
لقد كان الشيخ العبودي -رحمه الله- فارساً في ميدان العلم والتربية ورائداً من رواد التعليم والثقافة والأدب والعمل الإسلامي، وترك وراءه قصة حياة حافلة بالعمل الجاد والمخلص، وتميز بإرادة صلبة وعمل بصير، وحمل القلم في كل هذه الميادين لمايزيد على ثمانين عاماً معلماً وباحثاً ومؤلفاً ومسؤولاً، وكان قلمه الرصين سيالاً ومعطاءً، ومثالاً للفكرة المستقيمة، والحكمة المهذبة، والإنسانية النبيلة، وكان كل هذا سجية في طبعه وغريزة في نفسه، وكانا متصفاً بالصدق والصراحة بلا زيف ولا تكلف، إذا تحدث سحر الألباب برصانته وإذا كتب استولى على المشاعر ببلاغته، وإذا بحث أوفى للموضوع حقه من البحث والدراسة بشمولية وافية وجلية واضحة يتوخى فيها الدقة دون مواربة أو مجاملة، ومع جديته في العلم والعمل لم يكن بالفظ الغليظ، فهو جم الحياء، حلو النكته واسع الثقافة، وحتى أواخر عمره كان يكتب ويبحث بحيوية الشباب وبلا كلل أو ملل.
كنت أقرأ للشيخ العبودي ورأيته لأول مرة في زواج ابنه البكر المهندس ناصر من ابنة العم صالح -رحمه الله- منذ ما يزيد على أربعين عاماً، وحين التحقت بركب العمل الإسلامي منذ ما يزيد على خمسة وعشرين عاماً ازدادت معرفتي به فقد التقيته في اجتماعات ومؤتمرات ولجان مشتركة في الداخل والخارج حيث كان ممثلاً لرابطة العالم الإسلامي وتوثقت معرفتي به، وفي كل اجتماع تراه يوفي المجتمعين بالمعلومات عن البلد وعن الجمعية والقائمين عليها وكأنه يقرأ من كتاب، وتلقى أطروحاته في الاجتماعات آذاناً صاغية فهو الخبير والحصيف المتجرد من الأهواء الشخصية أوغيرها.
كانت زياراته للجمعيات والمؤسسات الإسلامية تختلف عن نمط الزيارات التقليدية النمطية لدى بعض الزائرين، فهو يتفقد الجاليات الإسلامية والأقليات بروح الأخوة وحنان الأبوة، ويبدي ملاحظاته باهتمام وتشجيع ويسدي نصائحه بمحبة وتقدير، ويوجه بلطف ويحرص على اجتماع المسلمين ووحدتهم ونبذ فرقتهم، ويحرص على تقديم المعونات المعنوية قبل المادية، وكان يعمل بحيوية متدفقة وشعلة ذكاء وهاجة، ويستقصي كل معلومة سياسية واجتماعية واقتصادية عن البلد قبل وأثناء الزيارة، وفي كل مساء ومع إطلالة كل فجر يدون ما سمعه وما رآه وما أجيب على تساؤلاته بدأب مستمر في كافة رحلاته.
كانت مسيرته في طلب العلم على يد مشايخه ومن ثم عمله في التعليم تتسم بالجدية وعدم إضاعة الوقت فيما لا ينفع فتجده بين الأوراق إما قارئاً أو كاتباً، فلا غرابة أن نرى هذا الزخم الكبير من إرثه العلمي وجهوده العملية.
لقد كان الشيخ العبودي عالماً فاضلاً وحكيماً مهذباً وأديباً أريباً، وحسبك برجل لم تحسب له طول حياته فعلة نابية أو كلمة شاردة أوإساءة قدمها أو أضمرها، ولكنه عاش طول حياته يبذر الخير في كل مكان، فلاشك أن الفجيعة بموته فجيعة لأهل الخير والعام والفضل قاطبة.
ما أكثر القصص والروايات والمواقف والأحداث التي عايشها الشيخ- رحمه الله- في تنقلاته ورحلاته ودونها ووثقها، ولكن ثمة قصة لم يدونها الشيخ، وسأرويها كما سمعتها من أحد الدعاة الذين سافروا ضمن برنامج الإمامة في شهر رمضان المبارك في إحدى السنوات إلى نيوزلندا وهي قصة عجيبة ومن (من عجائب المقادير) ففي بلدة تقع في أقصى شرق نيوزلندا تسمى كريستشيرش ومعناها بالعربية (كنيسة المسيح) وهي أكبر مدينة في الجزيرة الجنوبية من نيوزيلاندا، وثاني أكبر مناطق البلاد الحضرية وتقع على الساحل الشرقي في الثلث الأوسط من الجزيرة في منطقة شبه جزيرة بانكس، وقد زرت نيوزلندا عدة مرات وهي من جنات الدنيا خضرة وطبيعة.
في (مدينة المسيح) أكبر الكنائس، وكان هناك مسجد يسمى مسجد النور، سموه بذلك لأنه أول مسجد تشرق عليه شمس كل يوم في الأرض، فهو يسبق جميع المساجد في الأذان والصلاة كل يوم.
ولما جاء برنامج الابتعاث امتلأ المسجد بالطلبة السعوديين، وصار حضور الروافض في المسجد كثيفاً، وتكتلوا مع بني ملتهم من العجم والعرب وغيرهم، حتى غلبوا على المسجد بسبب كثرتهم وتنظيمهم، فما درى أهل السنة إلا والروافض يسيطرون على المسجد، ويعينون له إماماً منهم، فاعترض أهل السنة ووقعت خصومة شديدة بينهم وصلت للمحاكم النيوزلندية، وحيث إنه لا يوجد مستندات ولا أوراق تثبت أحقية أحد الطرفين بإدارة المسجد والسيطرة عليه فإن المحكمة ستقضي برأي الأكثرية في المسجد، وكان الروافض هم الأكثرية.
هذا الزميل والداعية كان في المدينة آنذاك وعاش أجواء الخصومة على المسجد، وحزن حزناً شديداً لما آل إليه حال المسجد، وقد كان طيلة السنوات السابقة بيد أهل السنة، والآن سيحكم للروافض بالسيطرة عليه، وحاول استنهاض الوزارة والرابطة وجميع المراكز الإسلامية للحصول على أي مستندات تدل على أن المسجد لأهل السنة لكنه لم يظفر بشيء، وحكم المحكمة في أمر المسجد سيكون بعد أسابيع لأن القاضي أمهل الطرفين هذه المدة قبل الحكم لإعطاء فرصة في البحث عن مستندات تثبت ملكية المسجد.
عاد صاحبنا للرياض ونسي موضوع المسجد، وكان مدعواً ذات ليلة في قاعة عرس، وصادف أن الشيخ الرحالة العبودي حاضر العرس، كما صادف أنه جلس بجوار صاحبنا، وبدأ الحديث عن رحلات الشيخ وعجائب ما شاهد، فقال له صاحبنا: قد جئت قبل أيام من نيوزلندا، فصار الشيخ العبودي يسأله عن أحوالها والمسلمين فيها، فأخبره بقصة المسجد وما آل إليه أمره، قال له الشيخ العبودي: هذا المسجد أنا بنيته قبل ثلاثين سنة بتكليف من الملك فهد ومستنداته عندي، لم أجد أحداً ثقة أسلمه إياها آنذاك فأخذتها معي.
فرح صاحبنا فرحاً شديداً بذلك، واتصل من فوره على الإخوة في نيوزلندا وأخبرهم بالأمر، وأرسل لهم المستندات، فقضت المحكمة بالمسجد لأهل السنة، وطرد منه الروافض شر طردة، حتى لم يسمحوا لهم بالصلاة معهم فيه.. والحمد لله كثيراً.
أما القصة الأخرى فكانت في الندوة التي نظمتها دارة الملك عبدالعزيز عن الملك سعود وكان لي شرف المشاركة فيها ببحث عن الشؤون الإسلامية والأوقاف في عهد الملك سعود، وحين علم ببحثي وكان من المشاركين في الندوة بل وهو من ألقى كلمة المشاركين بالنيابة عنهم ذكر لي معلومة لم تكن مدونة في الكتب من قبل ولم نسمع بروايتها من أحد قبله فقال في استراحة بين الجلسات مع مجموعة من الباحثين وبحضور عدد من أنجال الملك سعود: عندما أعلن الديون الملكي عام 1380هـ قرار الملك سعود بتأسيس مؤسسة إسلامية عالمية من حيث الغاية، عربية سعودية من حيث التبعية، تعنى بتعليم أبناء العالم الإسلامي التعليم العالي من بقاع المعمورة كافة، مبيناً أن أولى العقبات التي كادت تؤخر انطلاق الجامعة عدم وجود مقر لها، مما دفع بالملك لأن يتبرع بـ22 قصراً ملكياً كانت متجاورة تقع على مساحة 107 آلاف متر، حول أكثرها لقاعات دراسية وأخرى للإدارة وأعضاء هيئة التدريس.
وقال كانت أول رحلة لي إلى أفريقيا عام 1384، بأمر الملك سعود لتوزيع بعض المساعدات المالية على الجمعيات والمؤسسات الإسلامية هناك، برفقة الشيخ محمد عمر فلاتة، والشيخ أبوبكر الجزائري، واستغرقت الرحلة (3) أشهر و(17) يوماً.
ولا أنسى الجلسات الخاصة المتعددة معه في مكة المكرمة عقب الاجتماعات واللجان التي كنت أحضرها معهم في الرابطة وسؤاله عن زياراتي وما شاهدته وسؤاله عن الشخصيات والجمعيات في البلدان، وحثه لي على تدوين ذلك، وما يتبعه من أحاديث خاصة وقصصه عن الأسرة عموماً وعن جدي ووالدي والأعمام وثناؤه عليهم.
ولعلي أختم بهذه القصة مع شيخنا العبودي وكنا وإياه من بين المدعوين لحضور المحاضرة التي ألقاها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- في المدينة المنورة تحت عنوان: (الأسس التاريخية والفكرية للمملكة) حينما كان أميراً لمنطقة الرياض وذلك في يوم 1432/4/24هـ، وفي صبيحة ذلك اليوم امتدت الجلسة معه لما يقرب الساعتين وكان آخر ماصدر له آنذاك كتاب عن شيخه معالي الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وشكرته على وفائه غير المستغرب، وكنا نمشي من فندق التوحيد إلى المسجد النبوي، فقال لي: أريد رأيك في الكتاب، فقلت له؛ أمثلي له رأي فيما تكتبه؟! فقال: (ولو)، فقلت: ياشيخ إنك لم تترك صغيرة ولا كبيرة ولا شاردة ولا واردة من حياة الشيخ عبدالله إلا وكتبت عنها ولكنك لم تتطرق لمسألتين، فقال على الفور وهو يتحرى الإجابة: ماهما؟، فقلت له؛ الأولى أنك لم تتطرق لموقف الشيخ عبدالله بن حميد من تعليم البنات، فقال صحيح، وأما الأخرى قلت له؛ إنك لم تذكر أسباب وقصة ترك الشيخ ابن حميد للقضاء واستقالته وبقائه في بريدة بعد تركه للقضاء، فضغط على يدي بشدة فقال: (وتقول لي لماذا آخذ برأيك في الكتاب) ثم قال: نعم لم أذكر موقف الشيخ من تعليم البنات لسببين أنه كان متحفظاً في أول الأمر، ولكنه لم يأت مع المشايخ الذين قدموا من القصيم، ولم أشأ أن أذكر الموقف، والقصة التي جرت بينه وبين الشيخ محمد بن إبراهيم وتركه للقضاء واستقالته بحضرة الملك سعود كان في نفسي شيء من ذكرها ورأيت ألا أوردها حباً وتقديراً مني للشيخين ومكانتهما في قلبي، فقلت له:إن لم تذكر هذا التاريخ فربما جاء من يرويه بعدك برواية لا تليق بهما، وقد يساء لهما جميعاً أولأحدهما ونحن مقبلون على المسجد النبوي وفي القرآن الكريم والسنة النبوية والأثر والسيرة من القصص عن الصحابة رضوان الله عليهم، وهم خير الأمة فقال: (ما كل ما يعلم يقال).
الآن رحل الشيخ العبودي جسداً وروحاً لكنه سيظل صورة شاخصة ومثالاً حياً في أذهان أهل العلم والأدب والثقافة والدعوة، وفي نفوس تلاميذه ومحبيه، وفي قلوب أولئك الذين ملأ قلوبهم بفيض إنسانيته وكرم سجيته، وما أفاء الله عليه من فضل عميم ونهج قويم وما خلفه من تاريخ وأدب وعلم عظيم، ومع الدعاء له بواسع المغفرة والرحمة أقول مختتماً ما بدأت به: العزاء للجميع، أسرته وأهله ومحبيه والوطن، والعالم الإسلامي أجمع.
والحمد لله على قضائه وقدره و(إنا لله وإنا إليه راجعون).