ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وعنّ له آخر
كأنه بفضاء الأَرْض يذرعه
قدر المولى عز وجل أن يكون يوم الجمعة 2-12-1443هـ، هو آخر أيام الشيخ الجليل محمد بن ناصر العبودي من أيام الدنيا الفانية إلى دار الخلود، بعد عمر مديد حافل بالأعمال الجليلة والذكر الحسن، وقد أُدِّيَت الصلاة عليه بعد صلاة ظهر يوم السبت في جامع الجوهرة البابطين بمدينة الرياض، ثم وُورِيَ جثمانه الطاهر في مقبرة شمال الرياض، داعين المولى له بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى نهوض جميع الخلائق ليوم الحساب.
وكانت ولادته عام 1345هـ، في اليوم الأخير من شهر ربيع الثاني في مدينة بريدة، وبعد بلوغه السابعة من عمره ألحقه والده بأحد الكتّاب لتلاوة القرآن الكريم وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، ثم بعد ذلك بدأ تعليمه على يد العديد من المشايخ الأجلاء أمثال العلامة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد، والشيخ عمر بن محمد بن سليم، والشيخ صالح بن أحمد الخريصي، والشيخ صالح بن عبدالرحمن السكيتي وغيرهم رحمهم الله جميعاً..
وقد جعله الشيخ عبدالله بن حميد أميناً على المكتبة في بريدة مما كان له الأثر البالغ في تحبيب القراءة له واتساع آفاق المعرفة لديه..، ثم عمل مدرساً وعمره 18 عاماً بالمدرسة الفيصلية ببريدة ثم مديراً للمعهد العلمي ببريدة، وبعد ذلك أصبح الأمين العام للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لثلاثة عشر عاماً، وبعدها عُيِّنَ وكيلاً للجامعة نفسها ثم مديراً لها، وبعد ذلك شغل منصب الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي، فأتاح له عمله في الرابطة وفي الجامعة زيارة معظم أصقاع العالم فكان لمشاهداته العديدة واطلاعاته الواسعة أن قام بإصدار أكثر من 120 كتاباً حول أدب الرحلات، ويكون بهذا قد حقق رقماً قياسياً في كتب الرحلات، وأصبح من رواد أدب الرحلات في العصر الحديث، كما تنوعت كتبه بين الرحلات والتاريخ والجغرافيا واللغة والأدب والأنسابُ والتراث الشعبي وأدب السيرة، حيث كان يُعرف برحلاته العلمية والدعوية التي حرص على تدوين أبرز مشاهداته عن جوانب من ثقافات متعددة لشعوب العالم، وشاهد من خلالها المعالم والآثار والمتاحف، والمناظر الطبيعية وأحوال الشعوب ودياناتهم، وقد أثرى المكتبة الصوتية ببرامج عن قصص رحلاته في سبيل الدعوة عبر إذاعة القرآن الكريم بأسلوب شيق ووصف دقيق ممتع لما شاهده في تلك البلاد.
أطلّ على كل الآفاق حتى
كأن الأرض في عينيه دارُ
وقد كُرّم من الدولة لجهوده العلمية المتمثلة في رصده الدقيق لجهود المملكة العربية السعودية في مجال الدعوة الإسلامية، وإيصال المساعدات السَّخيّة للشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وتدوين ذلك بدقة من خلال كتبه. ونال العديد من الأوسمة والجوائز من جهات عدة تقديراً لجهوده العلمية والأدبية والثقافية، حيث نال وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، وكرم في مهرجان الجنادرية عام 1424هـ، بصفته الشخصية الثقافية، كما فاز بجائزة الأمير سلمان بن عبدالعزيز لدراسات تاريخ الجزيرة العربية في دورتها الثالثة عام 1429هـ، وكُرم في رمضان عام 1442هـ، بجائزة شخصية العام الثقافية من وزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية، وكذلك بميدالية الاستحقاق في الأدب من وزارة المعارف عام 1394هـ، ومن عدة جهات متنوعة مثل نادي القصيم الأدبي عام 1421هـ، وفي اثنينية عبد المقصود خوجة عام 1406هـ، وثلوثية الدكتور محمد بن عبدالله المشوح.
ولقد ملأ عينيه من مسطحات الأرض وبحارها قبل أن يغمضها هادم اللذات..، وكأنه سمع قول الشاعر الكبير حاثاً على إسعاد النفس ومنحها قبل فراقها:
ذَرِ النَفسَ تَأخُذ وُسعَها قَبلَ بَينِها
فَمُفتَرِقٌ جارانِ دارُهُما العُمرُ
وقد ساهم في بناء العديد من المساجد حول العالم، تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وألهم أبناءه وبناته وعقيلته وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان.
فأحيي ذكرك بالإحسان تزرعه
يجمع به لك في الدنيا حياتانِ
** **
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف