محمد سليمان العنقري
دخل العالم مرحلة مفصلية من تاريخه مع تصاعد وتيرة المواجهات بمختلف أشكالها بين القوى الكبرى فالصين وروسيا تبنيان مكانة لهما تفتت مفهوم القطب الواحد الذي تشغله أميركا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ليكون العالم متعدد الاقطاب بينما تريد واشنطن أن تبقى منفردة في زعامة العالم اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وحتى ثقافياً حيث انتقلت لمرحلة الترويج لأفكار في مختلف دول العالم مرفوضة عقيدةً وثقافةً لدى تلك الشعوب تحت حجة حقوق الإنسان والحريات إذ ينظر للغرب بقيادة أميركا من غالبية شعوب العالم أنه تدخل في شؤونهم وعقائدهم بطرق تستخدم فيها أساليب لَيِّ الذراع بما يمتلكونه من نفوذ وإمكانيات ضخمة عبر وسائل عديدة مما يتنافى مع الحرية التي ينادون بها, بينما يجدون في التعامل مع بكين وموسكو علاقة أكثر توازناً دون أي تدخل في شؤونهم ولذلك أصبحوا مفضلين عن الغرب فجل التعامل ذو طابع اقتصادي فأحد التعليقات الساخرة يقول ذهب مسؤول أميركي لدولة إفريقية وهبطت طائرته بمطار بنته الصين ونقل بسيارة على طريق أنشأته الصين واجتمع بمسؤولي تلك الدولة في مبنى شيدته الصين وسبب زيارته ليحذرهم من الصين, فهذا التعليق يعكس الفرق بين أميركا والصين بعلاقتهما بالدول النامية والصاعدة.
فشكل المواجهة بين القوى الثلاث بدأ يأخذ طابعاً مختلفاً عن الدبلوماسية الهادئة لحد كبير الذي كان سائداً لسنوات طويلة فأميركا تفرض رسوماً على منتجات صينية تصدر لأأسواقها تقدر بحوالي 350 مليار دولار وهو ما رفع تكلفة المعيشة على الأسر الأمريكية بمقدار ألف دولار سنوياً, ومع ذلك تذهب أميركا لتصعيد المواجهة من خلال إقامة تحالفات بمنطقة المحيطين الهادي والهندي لمحاولة محاصرة الصين مستقبلاً ومنعها من الخروج لمناطق بعيدة للدفاع عن مصالحها.
أما مع روسيا فهي تحاول كسرها وإلحاق الهزيمة بها في حربها مع أوكرانيا وتسعى لتدمير اقتصادها بينما يصدح بعض الكتاب بالغرب بأن تكون دولهم أكثر استعداداً لتفكيك الاتحاد الروسي اعتقاداً منهم أن موسكو ذاهبة لانهيار جديد في اتحاد الأقاليم التابع لها, معتبرين أن أخطاء ارتكبت عند تفكك الاتحاد السوفيتي ويجب عدم تكرارها ويساند أميركا في كل ذلك بريطانيا ودول الاتحاد الاوروبي وكندا واستراليا واليابان وكوريا الجنوبية, ففائض القوة الذي يمتلكونه يعد كبيراً جداً ولديهم نفوذ هائل على كافة المنظمات الدولية مع قوة اقتصادية ضخمة وتحكم بالنظام المالي العالمي وامتلاك التكنولوجيا والمعرفة, لكن كل ذلك لا يكفي فعلياً لتحقيق أيٍّ من أهدافهم اتجاه الدولتين الصاعدتين بقوة بالعالم فصحيح أن لديهم القوة الأكبر لكن لا يوجد وقت كافٍ أمامهم لاستخدامها فالعالم تغير وأوزان الدول في شتى المجالات اختلفت.
فالصين أصبحت ثاني اقتصاد عالمي والدولة الأولى بالتجارة العالمية, وثلث رافعات العالم في موانئها, وترتبط بعلاقات شراكة واسعة مع حوالي 70 دولة عبر مبادرة الحزام والطريق, بينما بلغ حجم القروض التنموية التي قدمتها خلال العقدين الأخيرين أكثر من 840 مليار دولار وزعت على 13 ألف مشروع في 165 دولة, مما عزز علاقاتها الدولية حيث تنتشر آلاف الشركات الصينية في العالم بل وصلت بعلاقاتها إلى دول أميركا اللاتينية أي أصبحت على حدود منافستها أميركا كما أنها مسؤولة عن حوالي 30 بالمائة مما يصنع بالعالم, فالصين لم تعد رقماً عادياً بالمعادلة الدولية بل باتت ركيزة اقتصادية أساسية ومن أكبر المؤثرين بنمو الاقتصاد العالمي.
وتشير أكثر التقارير عن مستقبلها أنها ستزيح أميركا عن زعامة العالم اقتصادياً في العام 2028 بينما على الصعيد العسكري فهي قوة لا يستهان بها ومعدل نمو الإنفاق على جيشها هو الأعلى عالمياً, أما توجهها القادم فهو نحو الاستقلال التكنولوجي وزيادة تأثير المستهلك الصيني بالناتج المحلي مما يضعف تأثير أي حرب تجارية ضدها، بينما روسيا التي تمتلك ترسانة أسلحة تقليدية ونووية ضخمة فهي أيضاً تتربع على أكبر مساحة لدولة عالمياً وتستحوذ على قرابة عشرة بالمائة من إنتاج النفط عالمياً, وهي تمتلك أكبر احتياطي غاز عالمي ولاعب مؤثر بالأمن الغذائي الدولي من خلال إنتاجها الضخم من الحبوب, فهي أكبر مصدر للقمح بالإضافة لثرواتها التعدينية, فإذا حاول الغرب وضع المزيد من العقوبات عليها فإنها قادرة أن تحيل اقتصاد بعض أهم دول أوروبا إلى مرحلة شلل كامل بوقفها لتصدير الغاز, وكذلك النفط.
فالاتحاد الاوروبي الذي يدعم أوكرانيا بالمال والسلاح في حرب روسيا عليها هو أيضاً يشتري النفط والغاز الروسي فعائدات موسكو من النفط خلال أول 100 يوم من الحرب بلغت 98 مليار دولار بينما المفارقة العجيبة أن 61 بالمائة منها أتت من دول الاتحاد الأوروبي الذي يستورد حوالي 25 بالمائة من احتياجاته النفطية من روسيا أي أنهم يدعمون طرفي الحرب بوقت واحد, فموسكو التي استعدت لهذه الحرب ولديها القدرة لتحمل العقوبات على المدى القصير والمتوسط قادرة أن تتعايش مع أي عقوبات مما يعني أن الغرب قد لا يتمكن من تحمل الفاتورة الاقتصادية الباهظة لهذه الحرب مع ارتفاع التضخم ومخاطر الدخول بركود مجدداً بعد تداعيات جائحة كورونا التي بدأت قبل عامين وهو ما قد يعني التوصل لحل توافقي لهذه الأزمة خلال الشهور القليلة القادمة لدواعي اقتصادية.
يبدو أن فائض القوة لا يكفي لمنع قيام أقطاب جديدة بالعالم فهذه الأوراق التي بيد الغرب بدأت تتراجع تأثيراتها بسبب نفاذ جل الوقت الذي كان يسمح لهم بتحقيق أهدافهم, فمع تنامي قوى عديدة بالعالم ليست روسيا والصين فقط بل بمختلف القارات والمصالح تغيرت بوصلتها نحو الشرق أكثر وعاد النفط والغاز ليكونان أقوى ركائز دعم نمو الاقتصاد العالمي بعد محاولات غربية للتسريع نحو الطاقة المتجددة والتي فشلت في حماية اقتصادهم في اول اختبار عملي لها مع الحرب الروسية على أوكرانيا, بالإضافة لأزمات وأخطاء سياسية وقعوا بها فمعادلة مراكز القوة بالعالم تكتب من جديد ولم يبقَ وقت طويل حتى تكتمل إن لم تكن قد اكتملت فعلياً وما نمر به ليس إلا مراحل أولية لتأثيراتها.